الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

أهلًا شهر رمضان

أهلًا شهر رمضان
السبت ٠١ أبريل ٢٠٢٣ - ١٠:٢٨ ص
115

 

أهلًا شهر رمضان

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا شك أن شهر رمضان شهر معظم في السماء والأرض، اصطفاه الله تعالى بما ليس لغيره؛ ففي كل رمضان تفتح أبواب الجنان في السماء، وتغلق أبواب النيران، فعن أبي هريرة --رضي الله عنه-- مرفوعا: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين" متفق عليه. واصطفى الله تعالى رمضان ببدء نزول القرآن الكريم آخر الكتب السماوية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء والمرسلين قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، وفرض الله تعالى على عباده صيامه دون غيره، وجعل ثواب صيامه دون غيره مغفرة ما تقدم من الذنوب ففي حديث أبي هريرة المرفوع (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه، ورغب في قيام ليله، وجعل ثواب قيامه دون غيره مغفرة ما تقدم من الذنوب، فعن أبي هريرة --رضي الله عنه-- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه مسلم. وخص الله تعالى رمضان بليلة هي خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر، قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر). وقال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منزلين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين)، ولشرفها فمن أدركها وقام ليلها غفر له ما تقدم من ذنبه، ففي حديث أبي هريرة مرفوعا: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

وقد هدى الله عز وجل أمة الإسلام إلى تعظيم شهر رمضان والاعتناء به والحرص على اغتنامه، والإكثار من الطاعات والقربات المتنوعة فيه، فترى المسلمين فيه يقبلون على كل الطاعات بما لا يكون في غيره من الشهور. فالمسلمون وحدهم – دون غيرهم على وجه الأرض – الذين يعتنون بهذا الشهر، يفرحون بقدومه، يهنئ بعضهم بعضا بشهوده، ويعدون له العدة من قبل مجيئه على المستوى الفردي والجماعي. إن من يتابع أي مجتمع من المجتمعات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها لا يجد أدنى صعوبة في رصد وملاحظة احتفاء المسلمين في كل المجتمعات بقدوم شهر رمضان، ويرى بعينيه تغير أحوالهم وتبدلها بدخول الشهر. فكما اصطفى الله تعالى المسلمين وهداهم من دون الأمم إلى تعظيم يوم الجمعة في كل أسبوع فقد اصطفاهم وهداهم من دون الأمم إلى تعظيم رمضان في كل عام، وهذا من خصائص هذه الأمة، ولله الحمد والمنة على عظم فضله علينا نحن المسلمون.

ومن المظاهر الدنيوية المعتادة لاحتفاء المسلمين برمضان مع قرب أو بداية دخوله:

تزيين الشوارع والطرقات بصفوف من أوراق الزينة الملونة، تتوسطها فوانيس مختلفة الأحجام والأشكال التي تضاء ليلا، ومجسمات للكعبة المشرفة. وترى الناس يزينون بيوتهم بـأنواع من الزينات المتنوعة، وتراهم يهنئون بعضهم بعضا فرحين بشهود الشهر، شهر العبادات والطاعات والثواب الجزيل.

ترى المساجد كبيرها وصغيرها قد تزينت أبوابها ومداخلها ومخارجها بأنواع الزينات، وكست جدرانها الملصقات الدينية، وقد تم تجهيزها لاستقبال المصلين من تجديد فرش وتنظيف، ومن تقوية الإضاءة والتهوية، وتوفير بدائل تستخدم حال انقطاع الكهرباء لعطل طارئ، وتوفير مبردات الماء، وإعداد الأدوات اللازمة لتقديم المشروبات المتاحة والتمور لرواد المسجد عند الإفطار عقب آذان المغرب، وقبل الدخول في صلاة الفرض. وكلها أعمال تذكر الناس وتحثهم على الإكثار من الطاعات والجود والإنفاق وبذل الصدقات والإحسان إلى المحتاجين. وتجد السرادقات المعدة لتكون فيها موائد الرحمن طوال الشهر متناثرة هنا وهناك لا يخلو منها حي أو قرية، يتنافس فيها المقتدرون على تقديم الوجبات الطازجة الساخنة المتكاملة فيها عند وقت الإفطار لمن شاء من الصائمين بلا أي مقابل طلبا لثواب إطعام الصائمين، بينما تجد آخرين يقدمون التمر والمشروبات والمرطبات لكل من في الشوارع والطرق لكل السائرين عقب آذان المغرب. بينما تجد المطاعم والمقاهي والمحلات التي تقدم المأكولات والمشروبات مغلقة طوال النهار مراعاة لحرمة شهر رمضان، بينما تفنن بائعون آخرون في أنواع من الأطعمة والمشروبات التي لا ينتشر بيعها إلا في رمضان، حتى صارت شعارا دنيويا له يعرف قدومه بها، كالكنافة والقطائف وقمر الدين وغيرها.

وفي باب العبادة:

تجد الجميع الصغار قبل الكبار- إلا من شذ - حريص كل الحرص على حضور صلاة التراويح في جماعة في أول الليل، والتهجد في آخره، وشهود الصلوات المفروضة جماعة في المساجد، والاستماع إلى ما يعقد فيها من الدروس والمواعظ عقب تلك الصلوات أو في أوقات انتظار إقامتها، أو في أوقات الراحة بين ركعات صلاة التراويح، والتي يحرص القائمون على المساجد في كل مكان على وضع البرامج الجيدة لها، استثمارا لإقبال المصلين على المساجد واكتظاظ المساجد بهم، وإشباعا لرغبتهم المتقدة في معرفة دينهم والعمل به، إلى جانب إقامة المسابقات الدينية ومسابقات حفظ القرآن الكريم وتفسيره.

وتجد في رمضان وبوضوح ظاهر اعتناء المسلمين بقراءة القرآن الكريم وختمه عددا من الختمات في رمضان، فلا تكاد تخلو يد مسلم من مصحف يقرأ فيه خلال ليله ونهاره، ولما لا وشهر رمضان شهر القرآن، وثواب قراءة القرآن فيه كبير، والنفوس قد تزكت بالطاعات ليل نهار، حيث امتنعت عن كثير من الذنوب والمعاصي وتجنبت الموبقات، فحري بها أن لا تشبع من النهل من كتاب الله تعالى.

وفي رمضان يكثر الجود والعطاء من سائر المسلمين، كل على قدر طاقته، اقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان أجود الناس وأجود ما يكون في شهر رمضان، فيخرج الناس أموال الزكاة والصدقات، ويقدمون المساعدات المالية للفقراء واليتامى والمحتاجين، ويتنافسون في سعادة وعن طيب نفس حتى أن الفقراء والمساكين يسعدون بقدوم شهر رمضان لكثرة الخير فيه فيجدون طوال الشهر كفايتهم وما يحتاجون إليه.

وفي الثلث الأخير من شهر رمضان تجد الكثير من المساجد قد قدم عليها المعتكفون للانقطاع للعبادة والذكر فيها في تلك الأيام الفاضلة اقتداء بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وفي رمضان يحرص الكثيرون على أداء العمرة، فترى مئات الألوف من شتى بقاع الأرض يذهبون للعمرة، والصلاة في الحرمين الشريفين والاعتكاف في أحدهما، لما ثبت في الحديث أن عمرة في رمضان تعدل في الأجر والثواب أجر حجة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما في الصلاة في الحرمين من الأجر المضاعف.

فهذه بعض مظاهر اهتمام المسلمين في كل بقاع الأرض فرادى وجماعات بشهر رمضان، والتي تجعل من صيامه وقيامه والتعبد فيه متعة لا مشقة فيها، ويكون المجتمع المسلم كله فيها خلية نحل ممتلئة بالنشاط والحركة الدائمة التي لا تنقطع ليل نهار في طاعة الله تعالى. لذا كان المسلمون حقا الأحق بشهر رمضان وأجره، وهم أهله وخاصته، ولله الحمد والمنة.

حاجتنا إلى شهر رمضان:

إن الله تعالى قد خلق الإنسان من طبيعة مزدوجة، فيه عنصر طيني مادي وفيه عنصر روحي، إذ خلق آدم عليه السلام أبو البشر من طين الأرض ونفخ فيه من روح الله تعالى. فالإنسان بين عالمين: عالم المادة وعالم الروح، يتعامل مع الأرض، وله تعلق وتواصل بالسماء، يحتاج في معاشه إلى ما يخرج من الأرض ليأكل ويشرب ويلبس، ويحتاج في صلاحه إلى العمل بالوحي المنزل من السماء ليسعد، ولهذا زود بالغرائز التي تربطه وتدفعه إلى عمارة الأرض، وزود بالإيمان والملكات الروحية التي تزكو به إلى أعلى عليين. ولو أطلق الإنسان العنان لغرائزه وشهواته وانساق لها ولم يضبطها – لا نقول يكبتها ويعاندها بل يضبطها - بالوحي والإيمان صار كالأنعام بل أضل. وإن أخذ العبد من الدنيا ما يقيم حياته ويسعدها بما أباح الله له فيها بغير إسراف ولا مخيلة، وكبح جماح نفسه بضوابط الشرع، وفق قطعا إلى سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69). فخلق الإنسان من مادة وروح جعله بين وظيفتين، عبادة الله تعالى والالتزام بطاعته يطهر بذلك نفسه، وتسمو بها منزلته عند الله تعالى في أعلى عليين، وعمارة الأرض التي سخرها الله تعالى له واستخلفه فيها ليستعمرها ويصلحها وينتفع ويستفيد من كنوزها وخيراتها التي وضعت في الأرض لأجله. وما بين الوظيفتين تتقلب حياة الإنسان، وعليه دائما أن يوازن بينهما، لكل قدره المستحق.

وجاء شرع الله تعالى بما يحقق هذا التوازن ويضبطه، ويعين الإنسان على ذلك ويحققه:

فالإنسان لا يحتاج إلى من يذكره بالكسب والعمل والسعي في طلب الرزق فهو مدفوع إلى ذلك دفعا، لينفق على نفسه ولو بضرورات الحياة لنفسه وزوجه وأولاده، وقد أودع الله فيه من المواهب والقدرات ما ييسر له ذلك كل حسب طاقته وإمكانياته، فلا أحد محروم من أن يجني من دنياه ما تستقيم به حياته بما لا مشقة فيه فوق طاقته واحتماله.

والإنسان قد أوجب الله عليه من العبادات اليومية (الصلوات الخمس في اليوم والليلة) والأسبوعية (صلاة الجمعة)، وشرع له من نوافل العبادات الأخرى البدنية والقولية والمالية التي يؤدي منها ما يؤديه بحسب ما عنده من الإيمان والهمة، ولا تخلو حياة المسلم الحق منها، فيحقق بها وظيفة العبودية المطلوبة. 

فالعبادات اليومية من الفرائض والنوافل المطلوبة شرعا رحمة من الله تعالى بعباده من جهتين:

الأولى: إنها تحقق التوازن المطلوب بين عبادة الله تعالى وتعمير الأرض، فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.

الثانية: إنها لا مشقة في الإتيان بها في كل يوم وليلة مع الكسب والسعي اليومي، فلها حد أدنى وهو الفرائض التي لا يجد المسلم صعوبة في المواظبة عليها، ولا تتعارض مع السعي والكسب، وهذا مشاهد معلوم من أحوال العباد، لا ينكره إلا مكابر. ولها أحوال أعلى وأعلى وهي النوافل، التي يرتقي بها إلى الدرجات العلى من أراد من أصحاب الإيمان العالي والهمم العالية. وفوق ذلك فقد جعل الله شهر رمضان كل عام ليتزود فيه المسلم زادا سنويا، يزيل به عن نفسه -بما في شهر رمضان من مزيد فرائض ونوافل- ما تعلقت به نفس المسلم من حظوظ الدنيا الزائدة عن الحد المقبول، أو قصر فيه عبر شهور العام الطويلة بارتكاب كثير خطايا وذنوب، فيضمن المرء بشهر رمضان - إن اعتنى به حق الاعتناء - تحقيق التوازن المطلوب من جديد عبر سنوات حياته الطويلة على الأرض فصيام وقيام رمضان إلى رمضان مكفر لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، بل ولله تعالى في ليالي رمضان عتقاء من النار، ليس بينهم وبين دخول الجنة إلا أن يموتوا. الله نسأل أن يجعلنا منهم برحمته الواسعة وفضله العظيم.

حقا إن شهر رمضان بما فيه من مزيد طاعة مكثفة يحتاج إليه العبد من وقت إلى آخر على الأقل مرة في كل عام، إنها منحة ونعمة من الله تعالى، تستدعي شكر الله تعالى عليها بالقلب واللسان إلى جانب عمل الجوارح والأبدان.

سنة مهجورة 

الدعاء عند رؤية هلال الشهر:

من السنن التي هجرها الناس -جهلا بها أو تغافلا عنها وتهاونا- الدعاء الوارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند رؤية الهلال في أول كل شهر هجري، سواء كان هلال شهر رمضان أو غيره من الشهور، وإن كان هذا الدعاء في رمضان أوكد لعظم أجر العمل الصالح فيه. وهذا الدعاء والذكر فيه إظهار للعبودية والتوجه بالقلب واللسان إلى الله تعالى وحده مع التبرؤ من المعتقدات والخرافات والأباطيل المتعلقة بالتنجيم والكهانة وادعاء الغيب ونحوها.

روى الدارمي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى الهلال قال: (الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب (بضم الياء) ربنا ويرضى، ربنا وربك الله). وبنحوه رواه الترمذي والطبراني في الكبير، قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: رواه الطبراني وإسناده حسن، وحسنه الزين العراقي في تخريج الإحياء، ورواه الحاكم، والحديث حسنه الألباني في ظلال الجنة (1/ 172) وفي صحيح الترمذي (3/157).

والمراد بالهلال القمر في أول ليلتين أو ثلاث من الشهر الهجري، وسمي بالهلال من الإهلال وهو رفع الصوت، نقل منه إلى رؤية الهلال لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه للإخبار عنه ليعلم الجميع بدخول الشهر.

 وقد بدأ الدعاء بالتكبير (الله أكبر) لما فيه من الإقرار ببديع صنع الله تعالى، إذ الهلال آية من آيات الله تعالى الدالة على كونه مدبر للملكوت ومسير للأفلاك، وفيه مشروعية التكبير عند شهود الآيات العظام ليمتلئ القلب تعظيما لله تعالى وإكبارا له. وختم الدعاء بقوله - والخطاب للهلال الذي استهل - (ربي وربك الله) إقرارا بأن الله تعالى وحده الخالق، وتنزيهه عن أن يشاركه غيره من المخلوقات في تدبير الكون.

وهذا فيه التبرؤ من الأقاويل الضالة والدعاوى الباطلة في أن للأفلاك في العالم العلوي أي تأثير على الأحداث والوقائع في العالم الأرضي. وهو ما كان - ومازال - عليه عباد الكواكب والنجوم ممن يعتقدون أن للأفلاك تأثيرات على الأحداث على الأرض، وهو ما يعرف عندهم بعلم التأثير (العلم الروحاني) أو التنجيم، والذي مازال يرتبط به الكثيرون شرقا وغربا على ما فيه من الدجل والخرافات، فيدعون الاستدلال بحركات الكواكب والنجوم وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة، وهذا من الشرك الأكبر إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور أو مشتركة في تدبيره، وإن اعتقد أنها سبب فقط فهو أيضا من الكفر لكنه كفر غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفرا لدخوله في قوله -صلى الله عليه وسلم- على أثر سماء كانت من الليل: (هل تدرون ماذا قال ربكم) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب). وقد بين القرآن الكريم هذه القضية بيانا واضحا في قصة محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب ويعتقدون فيها، قال الله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (الأنعام: 75 – 79). وطبق النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك تطبيقا عمليا شافيا لما كسفت الشمس في عهده ووافق ذلك وفاة ابنه إبراهيم عليه السلام، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا). متفق عليه.

أما علم التسيير (علم الفلك) المبني على دراسة ومتابعة نظام ومدارات الأفلاك والاستفادة منها في معرفة الأوقات والجهات كالقبلة والجنوب والشمال وحساب الفصول والأزمان، فهو علم مشروع، مبني على دراسة نظام الله تعالى الدقيق في الكون والاستفادة منه ومنه تتبع الأهلة ودراستها. قال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (البقرة: 189). فمن تتبع الأهلة عرفت بدايات الشهور الهجرية، وعليها يكون دخول رمضان وانتهائه، ويعرف بها أشهر ومواسم الحج وتعتد به النساء. ومن معرفة منازل الشمس تعرف أوقات الصلاة وجهات القبلة، ومن تتبع النجوم ليلا يهتدي السائرون في ظلمات البر والبحر، ومن دراسة مدارات وحركات الأفلاك البعيدة بأدوات الرصد الحديثة، وهي أفلاك تخضع لنظام غاية في الدقة والإتقان وضعه الله تعالى لها ويمكن للإنسان بدراستها وتتبعها معرفة كثير من العلم النافع، ويفسر بها العديد من الظواهر الطبيعية حوله، ويتعرف على فصول السنة وأوقات البذر والغرس والحصاد، وما أشبه ذلك. قال تعالى: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (سورة النحل: 16)، وقال تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) (الرحمن: 5)، وقال تعالى: (وكل في فلك يسبحون)(يس). وقال تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) (يس: 39). والعرجون القديم: عذقة النخل إذا قدم وصغر حجمه وانحنى. فالمؤمن يستفيد من علم التسيير النافع ويرفض علم التأثير الباطل. وهذا الذكر النبوي يبين هذا المعنى ويبرزه بوضوح.

وما بين الإقرار بالتوحيد في أول الذكر (الله أكبر) وآخره (ربنا وربك الله) يكون التوجه بالدعاء والطلب من الله تعالى وحده، الذي تعلقت به القلوب دون غيره، بما فيه خير الدنيا وخير الآخرة: (اللهم): نداء، أي يا الله، (أهله علينا): أي أطلعه علينا وأرنا إياه، (بالأمن): مقترنا بالأمن من المخاوف الدينية والدنيوية، فبيده وحده الأمن منها كلها، كما قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (سورة قريش).

وقوله (والإيمان): أي ووفقنا في هذا الشهر للإيمان القولي والفعلي واجعلنا صادقين فيه. (والسلامة): ووفقنا لسلامة الدين والدنيا. (والإسلام): واجعلنا مستسلمين لك. (والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى): من الأعمال الصالحات.

وينبغي استقبال القبلة عند الدعاء بهذا الدعاء لا استقبال الهلال، لما تقرر في الشرع أنه لا يستقبل بالدعاء إلا ما يستقبل بالصلاة. قال الألباني رحمه الله في تعليقه على كتاب (الكلم الطيب برقم 162): (ولذلك كان على -رضي الله عنه- لا يرفع رأسه عند قوله هذا الدعاء، وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- ما كره الانتصاب للهلال). ومعنى انتصب: ارتفع، ففي المعجم الوجيز: ((انتصب): ارتفع. يقال: نصبه فانتصب، وانتصب للحكم: قام له وتهيأ).

فائدة: قد يقال ورد الحديث بالتعوذ بالله تعالى عند طلوع القمر، لقول عائشة -رضي الله عنها-: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي، فإذا القمر حين طلع، فقال: (تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (372). فهل بين ما ذكر وبين هذا الحديث تعارض؟ فالجواب: المراد بالغسق الظلمة، والوقوب الدخول في هذه الظلمة ونحوها. والمراد هنا دخول الليل بظلمته، والقمر آية الليل ودليل عليه، فالمراد ظلمة الليل. يقول شيخنا محمد إسماعيل المقدم حفظه الله: (فلعل سبب الاستعاذة منه في حال وقوبه لأن أهل الفساد ينتشرون في الظلمة، ويتمكنون فيها أكثر مما يتمكنون منه في حال الضياء، فيقدمون على العظائم وانتهاك المحارم. فأضاف فعلهم في ذلك الحال إلى القمر لأنهم يتمكنون منه بسببه، وهو من باب تسمية الشيء باسم ما هو من سببه، أو ملازم له. أفاده الحافظ أبو بكر الخطيب) (راجع: (النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة): لشيخنا محمد بن إسماعيل المقدم – ط. دار طيبة - ط. الثانية 1406 هجريا – 1986م: هامش ص 53).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية