الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- في غزوة فتح مكة

الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- في غزوة فتح مكة
السبت ٠١ أبريل ٢٠٢٣ - ١٠:٤١ ص
71

 

الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- في غزوة فتح مكة

كتبه/ علاء بكر 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

كان من بنود صلح الحديبية الذي عقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش بندٌ يفيد أن من أراد أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش منهم دخل فيه، وأن كل قبيلة تنضم إلى أي من الفريقين تعتبر جزءا منه، لا يعتدى عليها، فأي عدوان تتعرض له قبيلة من تلك القبائل يعد عدوانا على الفريق الذي تنتمي إليه.

وعليه دخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش، فصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين – خزاعة وبني بكر– عداوة في الجاهلية، فلما جاء صلح الحديبية فكانت الهدنة بمقتضاه وأمن كل فريق الآخر، انتهز رجال من بني بكر الهدنة للإصابة من خزاعة الثأر القديم، فأغاروا في شعبان من السنة الثامنة للهجرة على خزاعة ليلا، فأصابوا منهم رجالا، واقتتلوا بالسلاح حتى حاز رجال خزاعة إلى الحرم، فواصل المعتدون عدوانهم عليهم في الحرم، وقد أعان رجال من قريش بني بكر بالسلاح مستغلين ظلمة الليل. أسرع عمرو بن سالم الخزاعي فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأخبره بما كان، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: نصرت يا عمرو بن سالم، ثم قدم بعد ذلك نفر من خزاعة فيهم بديل بن ورقاء فأخبروا النبي بما أصابهم وبمظاهرة قريش لبني بكر عليهم. وسرعان ما أحست قريش بما وقع منها وشعرت بعواقبه فبعثت أبا سفيان بن حرب إلى المدينة لشد العقد وزيادة مدته، ولكن أبو سفيان عاد بغير رد.

أعطى نقض قريش وحلفائها من بني بكر لمعاهدة الحديبية الحق للمسلمين في قتال قريش من جديد، بل وغزو مكة نفسها إن أرادوا، خاصة بعد أن قضى المسلمون خلال فترة هدنة الصلح على اليهود عسكريا في المدينة وخارجها، وبعد سيطرة المسلمين على القبائل العربية في شمال المدينة وانتشار الإسلام بين القبائل، فأصبح للمسلمين في الجزيرة العربية قوة لا تدانيها قوة، ولم يبق أمام المسلمين طريق لتدين بلاد العرب لهم إلا فتح مكة، لذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم مكة بجيش كبير ففتحها فتحا مبينا.

وقد تجلت في فتح مكة صور عديدة من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن قيادته، إذ كان همه الأكبر أن يفتح مكة بأقل قدر من القتال، وأن يرغم قريش على التسليم والخضوع - رغم عداوتها التاريخية للمسلمين- بأقل قدر من إراقة الدماء، ونجح في تحقيق ما أراد بدرجة كبيرة.

ونحاول هنا أن نبين بعضا من الإجراءات التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم وشيئا من المواقف والأحداث التي وقعت في هذه الغزوة عظيمة الشأن والأثر الدالة على الحكمة العالية للنبي صلى الله عليه وسلم وحسن القيادة والتدبير للأمور، فمن ذلك:

- مباغتة قريش:

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مباغتة قريش في دارها لئلا تتهيأ لقتال المسلمين، لذا تكتم النبي أمر الخروج إلى قريش حتى عن أقرب الناس إليه، فأمر أصحابه وقبائل المسلمين خارج المدينة بالاستعداد للتحرك للقتال دون أن يخبر أحدا بنواياه الحقيقية ولا اتجاه حركته، بل أرسل في الأول من شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى وجهة أخرى، إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاث برد من المدينة، ليزيد من التمويه بأن يظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم سيتوجه إلى تلك الناحية وتنتشر الأخبار بذلك. وبهذا أخر الإخبار بنيته فلم يخبر بذلك إلا بعد استكمال الاستعداد وبعد الخروج من المدينة وبدء السير إلى مكة. وقد بث النبي صلى الله عليه وسلم عيونه داخل المدينة وخارجها ليحول بين وصول أنباء التحرك بقواته إلى قريش. ومن ذلك أنه منع رسالة من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة تخبرهم بنية المسلمين غزو مكة، وذلك أن حاطبا كتب كتابا يخبر أهل مكة بسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وأعطاه لامرأة جعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب بعث من جاء بهذا الكتاب من المرأة قبل وصوله إلى قريش، وقد اعتذر حاطب عن صنيعه هذا بأن له في قريش أهلا وولدا وليس له فيهم قرابة يحمونهم، فأراد أن يتخذ عندهم يدا يحمون به قرابته. فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه لكونه كان ممن شهد بدرا، وقال صلى الله عليه وسلم: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وهكذا أخذ الله تعالى العيون فلم تعلم قريش بخروج المسلمين ومسيرهم إليها.

ولا شك أنه لو انكشفت نوايا المسلمين لقريش في وقت مبكر لنظمت قريش قواتها وحشدت حلفائها واستطاعت مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم أطول فترة ممكنة ولوقعت خسائر كبيرة في الأرواح بين الطرفين، وهذا ما نجح النبي صلى الله عليه وسلم في تجنبه بحكمته ويقظته وحسن إدارته للأمور.

 - حشد جيش كبير:

ولعشر خلون من شهر رمضان غادر النبي صلى الله عليه وسلم المدينة متجها إلى مكة، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. وقد بلغت جموع المسلمين من المدينة وخارجها عشرة آلاف رجل، في عدد وعدة لم تعرفها الجزيرة العربية من قبل، إذ لم يتخلف عن الخروج إلا أصحاب الأعذار الصعبة، وهذا الجيش الكبير لا قبل لقريش وحدها على مواجهته، خاصة إن لم تكن قد استعدت له من قبل، ورغم ضخامة الجيش فقد بقيت حركة الجيش بحسن ترتيب الأمور سرا مكتوما عن قريش، فلم تعلم قريش مسبقا بتحرك جيش المسلمين ونواياه، وهذا ليس بالأمر السهل أبدا خاصة مع توقع أهل مكة احتمالية الهجوم عليهم لكن دون معرفة متى وأين يمكن أن يقع ذلك.

واصل النبي صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس معه صيام، حتى بلغ الكديد – وهو ماء بين عسفان وقديد – فأفطر وأفطر الناس معه. ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة فعسكر بجيشه هناك، وكان الوقت مساء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في الجيش نارا حتى ترى قريش ضخامة الجيش دون أن تعرف هويته، فيؤثر ذلك على معنوياتها، ويؤثر على روح المقاومة لديها فتستسلم دون قتال أو إراقة دماء، فأوقدت بالفعل عشرة آلاف نار. وخرج أبو سفيان بن حرب باتجاه تلك النيران التي تملأ الأفق البعيد يستطلع الأمر ويتحسس الأخبار، فقابله العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأجاره، فاحتجزه النبي صلى الله عليه وسلم لدى جيش المسلمين طوال تلك الليلة ليرى ضخامة الجيش الزاحف. ومع تحرك الجيش تجاه مكة صباحا اتجه أبو سفيان مبهورا مذعورا إلى مكة بعد أن أعلن إسلامه يحذر أهلها من مغبة التصدي لجيش المسلمين، وعدم جدوى المقاومة، فتفرق أكثر أهل مكة ينتظرون دخول المسلمين مكة، ولم يبق إلا قلة من رجالها شديدي العداوة للمسلمين مصرين على القتال.

نزع الحمية من النفوس:

لما غادر النبي صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر سعد بأبي سفيان وقد احتجز بمضيق الوادي وجنود المسلمين تمر أمامه تجاه مكة، ولكل قبيلة رايتها، قال سعد لأبي سفيان وقد أخذته الحمية: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الصحابة: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا)، ثم أرسل إلى سعد فأخذ منه اللواء ودفعه إلى ابنه قيس، وقد رأى أن اللواء لم يخرج بذلك عن سعد.

خطة محكمة لدخول مكة:

لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بمباغتة قريش بهذا الجيش الضخم وبالتأثير على معنويات أهلها، ولكنه ببعد نظره أدخل أسوأ الاحتمالات أيضا في حسبانه، وهو أن تقاوم قريش جيشه ولو مقاومة ضعيفة، لذا عمد إلى تطويق مكة من كل الجهات لإضعاف دفاع المشركين عن مكة، فأمر بدخول جيشه مكة من عدة جهات في وقت واحد، لتفريق جهود المقاومة من قريش إن وجدت، فتفشل أي مقاومة لقريش في التصدي للمسلمين في كل هذه الجهات معا في وقت واحد، فدخلت ميسرة الجيش بقيادة الزبير بن العوام رضي الله عنه مكة من أعلاها – من كداء- ومعه راية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر أن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح مكانه حتي يأتيه باقي الجيش. ودخلت ميمنة الجيش بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه مكة من أسفلها، وفيهم قبائل عديدة من العرب منهم أسلم وسليم وغفار ومزينة، وأمروا بموافاة الجيش عند الصفا. ودخلت قوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة رضي الله عنه مكة من غربها، بينما دخلت قوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مكة من شمالها الغربي من بطن الوادي في اتجاه جبل هند. وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقائدي القوات بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا إلى القتال اضطرارا، حتى يتم فتح مكة بدون قتال، على أن تجتمع كل تلك القوات بعد فتح مكة في منطقة جبل هند. وهكذا تحول فتح مكة إلى معركة معنويات لا معركة ميدان.

وفي ظل تلك الخطة الرشيدة والتدابير المحكمة اقتنعت قريش باستحالة المقاومة، فدخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر، إلا في جهة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد تجمعت قوة من شباب قريش شديدة العداوة للمسلمين وقد ساءهم أن تسقط مكة في يد المسلمين، فلقيهم خالد وأصحابه بالخندمة فناوشوهم، فأمطروا قوات خالد بالنبال، فأصابوا من المسلمين اثنين كانا قد شذا عن الجيش، لكن خالدا قاتلهم ففرق جمعهم، ودارت الدائرة عليهم فانهزموا وفروا هاربين، وقتل اثنى عشر رجلا من المشركين، وأقبل خالد يجوس مكة بقواته حتى بلغ الصفا حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. بينما تقدم الزبير حتى نصب رايته بالحجون، فلم يبرح حتى جاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب له هناك قبة. وهكذا دانت مكة للمسلمين بحمد الله تعالى، وسيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، وعسكر جيش المسلمين بأكمله في منطقة جبل هند.

 ومع هذا الفتح العظيم دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في غاية التواضع لله تعالى، وقد وضع رأسه على راحلته تواضعا حين رأى ما أكرمه الله تعالى به، وقد كاد شعر لحيته أن يمس واسطة الرحل شكرا لله تعالى.

فلما استراح الجيش نهض النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، فدخل المسجد الحرام، فأقبل على الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وهو على راحلته، ولم يكن محرما يومئذ، فاقتصر على الطواف، وهو يحطم كل ما حول البيت الحرام من الأصنام، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، جعل يطعنها بالقوس، وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، (جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)، والأصنام تتساقط على وجوهها. فلما أكمل النبي صلى الله عليه وسلم الطواف دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخل الكعبة فمحا ما بها من رسومات وصور، وكان فيها صورة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يستقسمان بالأزلام! فقال صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط). ثم أغلق عليه باب الكعبة ومعه أسامة وبلال رضي الله عنهما، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع وقف وقد جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان بالبيت يومئذ على ستة أعمدة، فصلى هناك. ثم دار في البيت وهو يكبر في نواحيه. فلما انتهى من تطهير البيت فتح باب الكعبة ووقف عليه، وقد تجمع أهل مكة وقد ملأوا المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع بهم، فأخذ بعضادتي الباب، فخطب فيهم خطبة بليغة، قال فيها صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتل الخطأ شبه العمد – السوط والعصا – ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل: أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم)؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم) اذهبوا فأنتم الطلقاء).

(انظر الخطبة في (الرحيق المختوم) لفضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري – طبعة المكتب الجامعي الحديث – الإسكندرية: ص 390). وهكذا عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل قريش بعد كل هذه السنوات الطويلة من شدة العداوة والاقتتال.

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه بالمسجد فاستدعى عثمان بن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة، وقال له: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء). فلما حان وقت الصلاة المفروضة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا رضي الله عنه أن يصعد على الكعبة فيؤذن للصلاة.

وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومها دار أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها. وكان وقت صلاته لها وقت الضحى، فظن من ظن أنها صلاة ضحى، ورآها آخرون أنها كانت صلاة الفتح.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة