الخميس، ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٥ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (3)

هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (3)
الأربعاء ٠٣ مايو ٢٠٢٣ - ١٥:٥٣ م
47

 

هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (3)

كتبه/ كريم صديق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن التعريض ما كان مبعثه صيانة المذنبين مما قد يلحقهم من ضرر نفسي إن هو صرَّح بما اقترفوه من آثام، مع ضرورة عرض القضية على أصحابه؛ حتى لا يتكرر الخطأ دون توجيه نبوي بهذا الشأن، فنراه يقول: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ؟)، فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: (‌لَيَنْتَهُنَّ ‌عَنْ ‌ذَلِكَ، ‌أَوْ ‌لَتُخْطَفَنَّ ‌أَبْصَارُهُمْ) (رواه البخاري)، وقال: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، ‌مَا ‌كَانَ ‌مِنْ ‌شَرْطٍ ‌لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) (متفق عليه).

فنراه -صلوات الله عليه- يُعَرِّض بذكر هؤلاء الذين لم يحسنوا صلاتهم، ورفعوا أبصارهم إلى السماء في إشارة إلى فعلهم، من غير أن يصرح بأسمائهم، وحسبهم من ذلك أن بيَّن لهم الخطأ وحذَّر مَن لم يفعل من الوقوع في مثل ما وقعوا، ويحذِّر أولئك الذين اشترطوا شروطًا ليست في كتاب الله أو خالفته، ويبيِّن لهم أن الولاء لمَن أعتق وليس لمن باع؛ لأن البائع استفاد من الثمن؛ فكيف يُحرم المعتق من الولاء؟ ويحوز المال والولاء من باع فيحرم المعتق من الخير كله؟!

وثمَّ تعريض مبعثه استخراج ما في نفوس الأنصار؛ فقد أبرم معهم معاهدة تنص على حمايته داخل المدينة، وهو -صلوات الله عليه- ينوي الخروج إلى لقاء قريش خارج المدينة، فلا زال يكرر سؤاله حتى تبيَّن القوم أنه إنما يريد الأنصار، ففي الأثر: "وأتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله! فنحن معك فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: (‌فَاذْهَبْ ‌أَنْتَ ‌وَرَبُّكَ ‌فَقَاتِلَا ‌إِنَّا ‌هَاهُنَا ‌قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلوات الله عليه-  خيرا، ودعا له، ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس- وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللّقاء، لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله" (السيرة النبوية لابن هشام)

قال ابن حجر -رحمه الله-: "عَرَفُوا أَنَّهُ يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَكَانَ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا يُوَافِقُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوهُ إِلَّا عَلَى نُصْرَتِهِ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ، لَا أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ" (فتح الباري).

والتورية كانت سمة غالبة في غزواته -صلوات الله عليه- إلا حين يكون التصريح أمرًا حتميًّا؛ لبعد المسافة -مثلًا- الذي يستوجب مصارحة الناس بصعوبة الرحلة وخطورة المعركة، قال كعب بن مالك - رضوان الله عليه- في ثنايا حديثه عن غزوة تبوك : "ولم يكن رسول الله -صلوات الله عليه- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسولُ الله  -صلوات الله عليه-  في حَرٍّ شَديدٍ، واستقْبَلَ سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عَدُوًّا كثيرًا، فَجَلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوهم، وأخبرهم بوجْهِهم الذي يريدُ" (متفق عليه).

قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَرَّى بِغَيْرِهَا أَيْ أَوْهَمَ غَيْرَهَا، وَالتَّوْرِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْآخَرِ، فَيُوهِمُ إِرَادَةَ الْقَرِيبِ وَهُوَ يُرِيدُ الْبَعِيدَ" (فتح الباري).   

فاستعمل النبي -صلوات الله عليه- التورية في موضعها المناسب، وذلك عند خوفه من أن ينتقل الخبر إلى أعدائه، واستعمل التصريح عند أمن انتقال الخبر، أو وجود مصلحة أكبر. 

قال المناوي: "والتورية أن يذكر لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيسأل عنه وعن طريقه فيفهم السامع بسبب ذلك أنه يقصد المحل القريب، والمتكلم صادق، لكن لخلل وقع من فهم السامع خاصة، وأصله من وريت الخبر تورية سترته وأظهرت غيره، وأصله ورا الإنسان؛ لأنه من ورى بشيء كأنه جعله وراءه" (فيض القدير).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة