الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الكبائر (14) الرشوة (موعظة الأسبوع)

الكبائر (14) الرشوة (موعظة الأسبوع)
الأربعاء ١٧ مايو ٢٠٢٣ - ١٨:٣٧ م
53

 

الكبائر (14) الرشوة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الرشوة من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ لما لها من أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونها من الكبائر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌الرَّاشِيَ ‌وَالمُرْتَشِيَ"(1) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

تحريم الرشوة، وبيان أثرها:

- جاء الإسلام بعقيدة وشريعة تدل على أن الأرزاق مقدَّرة، وأن على الإنسان أن يسعى في الأسباب المشروعة للكسب الحلال: قال -تعالى-: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6)، وقال -تعالى-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور) (15: الملك)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 168).

- وحرَّم الإسلام الكسب الحرام على أي صورة كانت، ورتَّب على ذلك العقوبة الشديدة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ، وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني). قال القاري في المرقاة: "السحت: الحرام الشامل للربا والرشوة وغيره"(2).

- لقد حرم الإسلام هدايا العمال، واعتبرها من الرشوة المقنعة؛ فكيف بالرشوة الفاجرة الصريحة؟! عن أبي حميد الساعدي قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، ‌أَوْ ‌بَقَرَةٌ ‌لَهَا ‌خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مَرَّتَيْنِ. (متفق عليه).

وعن عدي بن عميرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ ‌فَكَتَمَنَا ‌مِخْيَطًا ‌فَمَا ‌فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: (وَمَا لَكَ؟)، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) (رواه مسلم)(3).

- ولقد شاعت الرشوة الصريحة في هذا الزمان، وسمَّاها الناس بأسماء تروجها: (إكرامية - هدية - حلاوة - أتعاب -...)، وتنافسوا في طرقها ووسائلها دون مبالاة بآثارها وعواقبها! قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف: 103- 104)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ) (رواه البخاري).

- إشارة إلى بعض الآثار السيئة لشيوع الرشوة على بعض الجوانب: (المشروعات الإنتاجية الفاسدة - تهريب المخدرات والسلاح وتهديد أمن البلاد - دخول الأدوية والأغذية الفاسدة - تهميش الكفاءات وصعود الراشين - شيوع الحقد والكراهية بسب الظلم الناتج عن الرشوة -....).

- عاقبة المتعاملين بالرشوة في الدنيا والآخرة:

أولًا: في الدنيا:

- المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله(4): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌الرَّاشِيَ ‌وَالمُرْتَشِيَ فِي ‌الحُكْمِ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- المتعامل بالرشوة ممحوق بركة المال والحال، كما هو حال كل آكل للحرام: قال -تعالى-: (‌يَمْحَقُ ‌اللَّهُ ‌الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) (متفق عليه).

- المتعامل بالرشوة مقطوع الصلة بربه؛ لأنه محروم من استجابة دعائه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! (رواه مسلم). وروي في الحديث: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ" (رواه الطبراني). وعن وهب بن مُنبِّه قال: "مَن سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته" (جامع العلوم والحكم).

ثانيا: في الآخرة:

- المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله في الدنيا؛ فكيف بحاله في الآخرة؟! قال -تعالى-: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرً) (النساء: 52).

- المتعامل بالرشوة مفضوح يوم القيامة بكل رشوة أخذها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ ‌حَتَّى ‌يُسْأَلَ ‌عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ ‌رُغَاءٌ، ‌أَوْ ‌بَقَرَةٌ ‌لَهَا ‌خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ) (متفق عليه).

- المتعامل بالرشوة مستحق لعذاب جهنم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني).

- خاتمة: هل للمتعامل بالرشوة توبة؟

- الله -عز وجل- يتوب على كلِّ عاصٍ إذا تاب توبة صادقة صحيحة: قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

- توبة المتعامل بالرشوة لا بد فيها من إصلاح ما أفسد، وأن يخرج من المال الحرام الذي أخذه برده في مصالح المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌كَانَتْ ‌عِنْدَهُ ‌مَظْلِمَةٌ ‌لِأَخِيهِ ‌فَلْيَتَحَلَّلْهُ ‌مِنْهَا، ‌فَإِنَّهُ ‌لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).

- إشارة في الختام مرة أخرى إلى أن الأرزاق قد كتبت وقسمت، وأنك لن تأخذ إلا ما قسمه الله لك؛ فاحرص على أخذه بالحلال، وارضَ بما قسم الله لك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ) (رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاس) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الرشوة: هي ما يُعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل. والراشي هو دافع الرشوة، والمرتشي هو آخذها وقابضها، والرائش الوسيط بين الراشي والمرتشي. قال العلماء -رحمهم الله-: "وإنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم أو ينال بها ما لا يستحق، أما إذا أعطى ليتوصل إلى حقٍّ له، ويدفع عن نفسه ظلمًا؛ فإنه غير داخل في اللعنة، وأما الحاكم فالرشوة عليه حرام أبطل بها حقًّا أو دفع بها ظلمًا" (الكبائر للذهبي).

(2) يأتي هنا السؤال: لماذا كان أكل الحرام له كل هذا التأثير؟ والجواب: أن الإنسان إذا كان كسبه من حرام، فَسَد كلُّ حاله؛ فطعامه وشرابه سيكون من الحرام، ونكاحه سيكون من الحرام، وحجه، إلخ.

(3) من أسباب انتشار الرشوة: شبهة بعض الموظفين أن الراتب الوظيفي ضعيف لا يكفي! ولا يدري أن العقد الوظيفي ملزم، وإلا طالب بالزيادة الحلال أو الفراق.

(4) المرتشي خصوصًا يكون في حالة من الذل والحقارة ما يجعله يتوارى ويخفي فعله بكل الوسائل، ولا يحب أن يقال له: "فلان المرتشي".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة