السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

)رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ...)

)رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ...)
الأحد ٢٥ يونيو ٢٠٢٣ - ١٠:٢٤ ص
136

 

)رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ...)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

ففي هذه الأيام المباركة التي تهفو فيها قلوب المؤمنين إلى بيت الله الحرام، الذي بناه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- على توحيد الله؛ تهفو القلوب استجابة مِن الله لدعوة إبراهيم -عليه السلام-، حيث ترك ولده إسماعيل رضيعًا، وأمه هاجر -رضي الله عنها-، في مكة المكرمة، وهي بعد لم تكن "مكة"، وإنما كانت قفرًا؛ صحراء وجبالًا ليس إلا.

تَرَكَها إبراهيم -عليه السلام- عند شجرة قرب موضع البيت، وقرب موضع زمزم التي نبعت بعد ذلك، وترك معها جراب تمر وقربة ماء، ثم رجع متجهًا إلى الشام فلحقته هاجر، وقالت: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا ‌بِهَذَا ‌الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ) (رواه البخاري)، وذكرت الإنس أولًا؛ لأنها مصرية تحب الأُنس- فلم يجبها إبراهيم -عليه السلام-، تعليمًا لها: أن السؤال لا ينبغي أن يُسال بهذه الطريقة؛ إذ كيف يُظن أن إبراهيم يترك ولده وأم ولده في هذا المكان الصحراوي القفر ثم يرحل ويتركهما متجهًا إلى الشام على بعد أكثر من شهر سفرًا؟! ما هذا إلا أمر من الله، فليس ممكنًا أن يكون إبراهيم -عليه السلام- قاسي القلب، كأناس قساة القلوب يتركون أبناءهم وأزواجهم وأهليهم دون أن يقيموا الواجبات فيهم مِن النفقة والسكنة والكسوة، وغيرها، فيضيعون أهليهم، ويتركونهم دون تربية لمن يفسدهم.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذكر هذا الحديث: (فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا)، فهي سألته مرارًا وإبراهيم -عليه السلام- لا يجيبها ولا يلتفت إليها، ثم انتبهت إلى أنه لا ينبغي أن تسأل بهذه الطريقة؛ لا سيما مع إبراهيم الحنيف الأواه الحليم، الذي يرأف بقوم كافرين، يريد أن يؤخر عنهم العذاب، وهم قوم لوط، فكان إبراهيم يريد أن يؤخر عنهم العذاب، قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ‌لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود: 74-75)، وأواه يعني مسبِّح عابد، ذاكر لله -عز وجل-، قانت لله -سبحانه وتعالى-، به كل هذه الصفات؛ فكيف إذا كان -عليه السلام- يرغب في رحمة الكافرين، فكيف بولده الرضيع؟! وأم ولده التي أسلمت وفارقت أهلها، وأحبت صحبة إبراهيم أكثر من أهلها؟! فانتبهت هاجر، وسألت: (آللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا).

لذلك لا بد وأن تتأكد أيها المؤمن: أن طاعة الله لا ضياع فيها، إن الله لا يضيع مَن وَحَّده وأطاعه واتبع نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، وإنما الضياع في الكفر والمعاصي، وإن ظن البعض أنه يأخذ نصيبًا من الدنيا، لكنها دنيا لا متعة فيها، قال الله: (‌مَنْ ‌عَمِلَ ‌صَالِحًا ‌مِنْ ‌ذَكَرٍ ‌أَوْ ‌أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، فالله -سبحانه وتعالى- يجعل القناعة في قلب عبده المؤمن، فيسعد بالدنيا، وأما الكفرة والمنافقون فقال الله عنهم: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55)، فقد يكون المال والولد والأهل أعداءً للإنسان، وسببًا لعذابه في الدنيا والآخرة، أما المؤمن فبالقناعة تكون الحياة الطيبة التي تحلو ولو كان يعيش في قفر وسط الجبال، ولذلك قالت هاجر: (إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا).

وما أحسن ظن هاجر بربِّها -سبحانه وتعالى-، وقد كان الله عند حسن ظنها وفوق ذلك!

أكلت هاجر من التمر وشربت من الماء، وأرضعت رضيعها حتى نفد التمر والماء، وعطشت، وتوقف اللبن لعدم وجود طعام ولا شراب، وبدأ الرضيع يصرخ من الألم حتى أوشك على الموت، رأته يموت، فبدأت البحث في هذا المكان القفر، بل أعداد الناس في جزيرة العرب كلها أعداد قليلة جدًّا، ولكن كما عَلَّمها إبراهيم عندما ترك لها التمر والماء، الأخذ بالأسباب بقدر الاستطاعة، فبدأت هاجر تبحث: هل من غوث، أو سبيل إلى الماء والطعام؟ فوجدت أقرب الجبال إليها جبل الصفا، وجعلت تنظر هل ترى من أحد فلم ترَ أحدًا، سبحان الله!

ثم نظرت إلى أقرب جبل، فوجدت جبل المروة، فاتجهت إلى جبل المروة، وفي الوسط بطن الوادي تمكنت من إسراع المشي قليلًا ما بين المشي والجري؛ لأنها كنت مجهدة وعطشى وجائعة، وخائفة، ومتألمة لابنها الذي يتنفس كأنه يموت من الجوع والعطش، صعدت على جبل المروة لتنظر هل من أحد؟ فلم تجد أحدًا، سعت بين الصفا والمروة 7 أشواط، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَذَلِكَ ‌سَعْيُ ‌النَّاسِ بَيْنَهُمَا) (رواه البخاري)، حتى كان آخر سعيها على المروة.

وهاجر هنا كربها شديد؛ جوع وعطش، ووحدة وخوف، وموت ابنها على وشك الحصول؛ بسبب جوعه وعطشه، ولكنها معها ربها -سبحانه وتعالى- الذي رضيت به ربًّا، وقالت: (إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا).

هاجر في المرة السابعة سمعت صوتًا، فأخذت تنظر فلم ترَ أحدًا، فقالت: (صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا) أي: اسكتي حتى أسمع، فسمعت فتأكدت من وجود الصوت، فقالت: (قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ) أي: أغثْ إن كان عندك غوث، وهنا لم تطلب الغوث إلا عندما علمت بالحضور، وليس كما يفعل البعض من الناس؛ أن يطلبوا الغوث من الأموات، أو البعيدين عنهم، فإنه لا يُدعى على الغيب إلا الله.

فهاجر لم تطلب من المَلَك إلا عندما تأكدت من وجود الصوت؛ أما أن يذهب البعض لقبر من القبور، أو يدعو الصالحين على بُعْدٍ منهم؛ فهذا يخالف ما قال الله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ ‌قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 13-14)، فلا تطلب المدد ولا الغوث إلا من الله.

ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة بدر، وهو يدعو الله طوال الليل، يصلي قائمًا تحت شجرة، ويستغيث ربه، قال الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9)؛ لم يقل: مدد يا إبراهيم، ولا مدد يا جبريل، أو مدد يا موسى أو عيسى، وإنما استغاث بالله؛ فأنزل الله ملائكته من عنده بأمره، فمدهم بهذا المدد من عنده -سبحانه وتعالى-، وهكذا يجوز للإنسان أن يستغيث بحاضر بالقرب منه، أو سمع صوته ولم يره، لكنه تأكد أنه موجود، وأما على الغيب فلا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِذَا ‌سَأَلْتَ ‌فَاسْأَلِ ‌اللَّهَ، ‌وَإِذَا ‌اسْتَعَنْتَ ‌فَاسْتَعِنْ ‌بِاللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

قالت هاجر: (قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ)، فظهر جبريل -عليه السلام-، فقال: مَن أنتِ؟ فقالت: (أَنَا ‌أُمُّ ‌وَلَدِ ‌إِبْرَاهِيمَ)؛ فلم تقل اسمها ولا اسم أبيها، ولكن انتسبت إلى إبراهيم؛ لأنها أحبت إبراهيم، أحبت التوحيد، وكرهت الشرك الذي كان قومها عليه، فقد كان قومها يعبدون الأوثان ويعبدون الجبابرة من دون الله، فلما صحبت إبراهيم ولما أسلمت قالت ذلك: (أَنَا ‌أُمُّ ‌وَلَدِ ‌إِبْرَاهِيمَ)، فشرفنا بنسبتنا للأنبياء وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، باتباع سنته -صلى الله عليه وسلم-.

ويأتي الفرج بين يدي إسماعيل وحوله جبريل يضرب بعقبه أو بجناحه الأرض، فتنبع زمزم، سُقي إسماعيل وأم إسماعيل -عليهما السلام-، وجعلها الله سببًا للحياة في مكة المكرمة استجابة لدعوة إبراهيم لما تركهما، وقال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37)، فاستجاب الله لهذه الدعوة التي غَيَّرت وجهَ العالم؛ فأصبحت الأفئدة تهوي إلى هذه البقعة المباركة، ومَن لم يذهب إليه قصده عن بُعْد، فولى وجهه شطره، كما أمر الله نبيه بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية