الأحد، ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الهجرة النبوية في القرآن الكريم

الهجرة النبوية في القرآن الكريم
الثلاثاء ٢٥ يوليو ٢٠٢٣ - ١٨:٢٥ م
64

الهجرة النبوية في القرآن الكريم

كتبه/ علاء بكر.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اتفق صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- على اتخاذ العام الذي هاجر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة بداية لتاريخ الإسلام؛ لأهمية هذا الحدث الكبير.

ومعلوم أن مِن سنة الله -تعالى- في رسله وأنبيائه: أنهم يعانون مِن عداء مَن خالفهم ولم يؤمن بما جاءوا به من عند الله -تعالى-؛ فيصبرون -هم ومن آمن بهم على قلتهم وضعفهم- على الاضطهاد والأذى، بل ويجبرون على هجرة أوطانهم إلى غيرها فرارًا بدينهم، حتى يأتيهم هم وأتباعهم نصر الله -تعالى-. 

وهذه من الأمور التي يدركها كلُّ مَن درس سيرة الرسل والأنبياء وتأمل فيها؛ فهذا ورقة بن نوفل لما أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بنزول الوحي عليه وهو في غار حراء -وكان ورقة ابن عم لخديجة بنت خويلد زوج النبي -رضي الله عنها- قد تنصر في الجاهلية، وكان على علم بالإنجيل-، فقال ورقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا -إذ كان هو وقتها شيخًا كبيرًا قد عمي-، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَوَمُخْرِجِيَّ ‌هُمْ؟!)، قَالَ: نَعَمْ. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ" (متفق عليه).

وهذا إبراهيم خليل الرحمن وأبو الأنبياء -عليه السلام- يتعرض للاضطهاد من أبيه وقومه، إذ قال له أبوه كما قال -تعالى- حاكيًا عنه: (‌قَالَ ‌أَرَاغِبٌ ‌أَنْتَ ‌عَنْ ‌آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم:46)، فاعتزل إبراهيم -عليه السلام- قومه، قائلاً: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم 48)، وقال -تعالى- عنه: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (مريم: 49)، ولهذا هجر  وطنه، قال -تعالى- عنه: (‌فَآمَنَ ‌لَهُ ‌لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26).

هجرة الأنبياء بإذن من ربهم: 

وهذه الهجرة من الرسول أو النبي إنما تكون بعد إذن الله -تعالى- له بذلك، لا من تلقاء نفسه؛ فليس له أن يترك مَن أرسله الله -تعالى- إليهم إلا إذا اضطر لذلك وخشي على نفسه وعلى مَن آمن معه، وبعد أن يأذن الله -تعالى- له بذلك؛ ولهذا كان العتاب لنبي الله يونس -عليه السلام- لما ترك قومه قبل أن يؤذن له بذلك، بعد أن عانده قومه وأغضبوه، كما قال -تعالى-: (‌وَذَا ‌النُّونِ ‌إِذْ ‌ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء: 87 - 88)، وقال -تعالى- في شأنه أيضًا: (‌فَاصْبِرْ ‌لِحُكْمِ ‌رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ . لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ . فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القلم: 48 - 50).

وهذا ما كان من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كفار قريش؛ إذ عاش بين أظهرهم سنين طوال يدعوهم إلى الله -تعالى-، ويصبر هو ومَن آمن معه على آذاهم، حتى وَجَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أتباعه بالهجرة مرة إلى الحبشة، وأخرى إلى المدينة (يثرب)، ولم يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن بلغ الأمر منتهاه بتآمر قريش على قتله، قال -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌يَمْكُرُ ‌بِكَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30). 

(ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل إليه جبريل بوحي ربه -تبارك وتعالى-، فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة قائلًا: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت فيه) (الرحيق المختوم، ص 156، نقلًا عن ابن هشام (1 / 482)، وزاد المعاد (2/ 52).

دأب الرسل وأهل الإيمان الفرار بدينهم:

- قد أخبر القرآن الكريم أن مَن دأب أعداء الرسل والأنبياء ومَن آمن بهم وبما جاءوا به؛ إجبارهم على مغادرة أرضهم و ديارهم، قال -تعالى- (﴿‌وَقَالَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌لِرُسُلِهِمْ ‌لَنُخْرِجَنَّكُمْ ‌مِنْ ‌أَرْضِنَا ‌أَوْ ‌لَتَعُودُنَّ ‌فِي ‌مِلَّتِنَا) (إبراهيم: 13)، وقال -تعالى-: (﴿‌وَلُوطًا ‌إِذْ ‌قَالَ ‌لِقَوْمِهِ ‌أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل: 54-56)، وقال -تعالى- فيهم: (‌وَمَا ‌كَانَ ‌جَوَابَ ‌قَوْمِهِ ‌إِلَّا ‌أَنْ ‌قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (الأعراف: 82)، وقال -تعالى- في قصة شعيب -عليه السلام-: (‌قَالَ ‌الْمَلَأُ ‌الَّذِينَ ‌اسْتَكْبَرُوا ‌مِنْ ‌قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف: 88). 

- بل هو دأب الكفار مع أهل الإيمان في كلِّ عصر؛ اضطهادهم وتعذيبهم أو إكراههم على الهجرة والفرار بدينهم، كما في قصة صاحب سورة يس، قال -تعالى-: (﴿‌وَاضْرِبْ ‌لَهُمْ ‌مَثَلًا ‌أَصْحَابَ ‌الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (يس: 13- 19). 

وكما في قصة أهل الكهف الذين أخبر الله -تعالى- عنهم أنهم قالوا فيما بينهم لما اشتد عليهم الأمر، وضاق بهم الحال: (‌وَإِذِ ‌اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ‌وَمَا ‌يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) (الكهف: 16)، وقولهم: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف: 20).

وورد حثُّ أهل الإيمان على الفرار بدينهم وهجر الأوطان إن لم يتمكَّنوا من القيام بأمور دينهم، وتوعد الله -تعالى- مَن لم يفر بدينه منهم، قال الله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌تَوَفَّاهُمُ ‌الْمَلَائِكَةُ ‌ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء:97-99). 

- وفي المقابل وَعَد الله -تعالى- المهاجرين في سبيله -تعالى- بالخير الكثير في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة: قال -تعالى-: (‌وَمَنْ ‌يُهَاجِرْ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌يَجِدْ ‌فِي ‌الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء: 100)، وقال -تعالى-: (‌فَالَّذِينَ ‌هَاجَرُوا ‌وَأُخْرِجُوا ‌مِنْ ‌دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران :195)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَالَّذِينَ ‌هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 218).

الإذن للمهاجرين المظلومين بالقتال:

- وأذن الله -تعالى- لمن هاجروا إن قدروا على القتال أن يقاتلوا مَن أخرجوهم من أرضهم، واستولوا على ديارهم وأموالهم ظلمًا وعدوانًا، ويتربصون بأهل الإيمان ودعوتهم إلى دين الله -تعالى-، قال -تعالى-: (‌وَاقْتُلُوهُمْ ‌حَيْثُ ‌ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:191)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ . ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 38-40)، وقال -تعالى-: (‌يَسْأَلُونَكَ ‌عَنِ ‌الشَّهْرِ ‌الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:217).

- وأخبر القرآن الكريم أن كفار قريش هم الذين أكرهوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وألجأوه إلى الهجرة إلى المدينة؛ نجاة بنفسه منهم، قال -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌يَمْكُرُ ‌بِكَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30)، وقال -تعالى-: (‌وَكَأَيِّنْ ‌مِنْ ‌قَرْيَةٍ ‌هِيَ ‌أَشَدُّ ‌قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) (محمد:13)، وقال -تعالى-: (‌إِلَّا ‌تَنْصُرُوهُ ‌فَقَدْ ‌نَصَرَهُ ‌اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ) (التوبة: 40).

- وأخبر القرآن الكريم أن كفار قريش أجبروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومَن آمن معه مِن الصحابة -رضي الله عنهم- على الخروج مهاجرين من مكة إلى المدينة؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ‌بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) (الممتحنة:1)، وقال -تعالى-: (‌لِلْفُقَرَاءِ ‌الْمُهَاجِرِينَ ‌الَّذِينَ ‌أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8)، وقال الله -تعالى-: (‌إِنَّمَا ‌يَنْهَاكُمُ ‌اللَّهُ ‌عَنِ ‌الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9). 

- ولهذا كان من دعاء المؤمنين المستضعفين إذا اضطهدهم قومهم وعجزوا عن الهجرة، الطلب من الله أن ييسر لهم الهجرة والفرار بالدِّين، وأن ينصرهم على عدوهم؛ قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌لَكُمْ ‌لَا ‌تُقَاتِلُونَ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء: 75).  

 - ذكر طرف من أحداث الهجرة مفصلة:

لم يأتِ ذكر أحداث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة في القرآن الكريم مفصلًّا إلا في موضع واحد، يتعلق بالكلام عن أحداث غزوة تبوك، والتي كانت في شهر رجب من السنة التاسعة بعد الهجرة، أي: بعد وقوع الهجرة النبوية بأكثر من تسع سنوات، وذلك في سورة التوبة؛ قال الله -تعالى- فيها: (‌إِلَّا ‌تَنْصُرُوهُ ‌فَقَدْ ‌نَصَرَهُ ‌اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40). 

ومعلوم أن غزوة تبوك كانت في ظروف صعبة وقاسية لم يشهد المسلمون مثلها من قبل، فالخروج إلى تبوك سفر طويل، والوقت حار، والكثيرون يتطلعون إلى جني الثمار والزروع بعد طول انتظار، والعدو هو الروم؛ أقوى جيش في ذلك الوقت عددًا وعدة، فكانت الدعوة للخروج لمقاتلة الروم فيها مشقة وابتلاء لا يصبر عليه إلا أهل إيمان وصدق، ولا يطيقه أهل النفاق والشك؛ لذا كشفت هذه الغزوة أهل النفاق والريب وفضحتهم، فراح الكثيرون منهم يقدِّم الأعذار الواهية والدعاوي الكاذبة للتخلف عن المشاركة في الخروج، بل عمد هؤلاء المنافقون إلى بث روح الوهن في نفوس المؤمنين وتثبيط هممهم. 

قال اللواء الركن محمود شيت خطاب: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، وغزو عدو كثير؛ فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريده ليتأهبوا؛ لذلك لم يكتم نواياه؛ لأن المسافة طويلة يجب قطعها صيفًا، فلا بد من اكتمال المؤنة والنقلية -ما ينتقلون به من دواب وغيرها- للمجاهدين قبل الحركة، حتى لا يؤدي نقص القضايا الإدارية إلى فشل المسلمين في تحقيق هدفهم المنشود. 

وليس من السهل تجهيز قوات المسلمين الكبيرة بما تحتاجه من مؤنة ونقلية وأسلحة ما لم يشارك أغنياء المسلمين في تجهيز هذا الجيش مشاركة فعَّالة؛ فأقبل هؤلاء الأغنياء على بذل أموالهم بسخاء وعن طيب خاطر، كما أقبل المسلمون من كلِّ فج تلبية لداعي الجهاد. وانتهز المنافقون فرصة شدة الحر، ونضوج الثمر، وطول المسافة، وقوة العدو؛ فأخذوا يثبطون العزائم وينشرون الروح الانهزامية بين المسلمين، ولكنهم فشلوا في محاولاتهم إذ لم يتخلف من المسلمين أحدٌ إلا ثلاثة رجال)، (وبقي في المدينة بعض المسلمين الذين لم يجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون)، وقد (وزَّع هرقل رواتب سنة كاملة على قواته النظامية، كما وزع كثيرًا من المال على القبائل العربية الخاضعة لسيطرته؛ تشجيعًا لهم لمعاونة جيشه في الصراع الوشيك. وبعد إنجاز استعدادات قواته أرسل طلائعها إلى (البلقاء) لستر التحشد الذي تم بعد ذلك في منطقة تبوك) (راجع: "الرسول القائد"، اللواء الركن محمود شيت خطاب - ط. دار القلم - ط. الثالثة 1964، ص 390 - 391 بتصرفٍ). 

ولقد نصر الله -تعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة نصرًا سياسيًّا كبيرًا؛ إذ انسحبت قوات الروم من تبوك شمالًا لما وصلتهم الأخبار عن وصول جيش المسلمين بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتفاع قوة معنوياتهم، وللسيطرة على المنطقة (أقام المسلمون حوالي عشرين يوما في منطقة تبوك انتظارًا لعودة جيوش الروم، وتأمينًا للحدود الشمالية بعقد المعاهدات مع سكانها، ودعمًا لهيبة الإسلام في نفوس القبائل، والعمل لحماية نشر الدعوة في تلك الأرجاء، فلما أنجزوا كل ذلك تحركوا عائدين إلى المدينة) (انظر: "الرسول القائد"، ص 394 - 395).  

وتسجيلًا لذلك النصر المؤزر من الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- كان نزول هذه الآية الكريمة تربط بين نصر الله -تعالى- لنبيه في أحلك الأوقات، وقت الهجرة من مكة إلى المدينة، وكفار قريش يتربصون به ويطاردونه، وهو وحيد لا حول له ولا قوة إلا بالله، وبين نصر الله -تعالى- لنبيه في ظروفه شديدة الصعوبة في غزوة تبوك؛ فكلاهما من فضل الله -تعالى- على نبيه -صلى الله عليه وسلم-. 

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير هذه الآية الكريمة من سورة التوبة: (‌إِلَّا ‌تَنْصُرُوهُ ‌فَقَدْ ‌نَصَرَهُ ‌اللَّهُ) "أي: إلا تنصروا رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ فالله غني عنكم لا تضرونه شيئًا، فقد نصره في أقل ما يكون (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة، لما هَمُّوا بقتله وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجأوه على أن يخرج، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) أي: هو وأبو بكر -رضي الله عنه-، (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) أي: لما خرج مِن مكة لجأ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب، فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كلِّ جانب يطلبونهما ليقتلوهما؛ فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على بال (إِذْ يَقُولُ) النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِصَاحِبِهِ) أبي بكر لما حزن واشتد قلقه، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) بعونه ونصره وتأييده، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي: الثبات والطمأنينة والسكون المثبتة للفؤاد.

ولهذا لما قلق صاحبه سكَّنه، وقال: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). 

(وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) وهي: الملائكة الكرام الذين جعلهم الله حرسًا له، (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) أي: الساقطة المخذولة، فإن الذين كفروا قد كانوا على حردٍ قادرين في ظنهم على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخذه، حانقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك، فخذلهم الله، ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئًا منه، ونصر الله رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع؛ فإن النصر على قسمين: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم الله لهم ما طلبوا وقصدوا، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم. والثاني: نصر المستضعف الذي يطمع فيه عدوه القادر، فنصر الله إياه أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه، ولعل هذا النصر أنفع النصرين. ونصر الله رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع. وقوله (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) أي: كلماته القدرية وكلماته الدينية هي العالية على كلمة غيره، التي مِن جملتها قوله: (‌وَكَانَ ‌حَقًّا ‌عَلَيْنَا ‌نَصْرُ ‌الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، (‌إِنَّا ‌لَنَنْصُرُ ‌رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، (‌وَإِنَّ ‌جُنْدَنَا ‌لَهُمُ ‌الْغَالِبُونَ) (الصافات: 173)، فدين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان بالحجج الواضحة والآيات الباهرة والسلطان الناصر، (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب ولا يفوته هارب، (حَكِيمٌ): يضع الأشياء مواضعها، وقد يؤخِّر نصر حزبه إلى وقتٍ آخر اقتضته الحكمة الإلهية) (راجع تفسير "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، تأليف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - ط. مكتبة الرحاب بالقاهرة- ط. الأولى 1428هـ - 2007م، ص 349).

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة