الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع حديث السحابة (5)

وقفات مع حديث السحابة (5)
الخميس ٠٣ أغسطس ٢٠٢٣ - ١٦:١٧ م
65

 

وقفات مع حديث السحابة (5)

كتبه/ محمد سعيد الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا أنَّ الرجل قصَّ على صاحب الحديقة ما سمعه وَرَآه مِن شأن السَّحابة، فقال: (إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ، يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ) الذي ذكرتَ لي، ثم سَألَهُ قائِلًا: (فَما تَصْنَعُ فيها؟)، فأخبره صاحبُ الحديقة بما يفعل فيها، فقال: (فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ)، وفي روايةِ الطَيَالِسِيِّ: (فَإِنِّي أَجْعَلُهَا عَلَى ثَلاثَةِ أَثْلاثٍ: أَجْعَلُ ثُلُثًا لِي وَلأَهْلِي، وَأَرُدُّ ثُلُثًا فِيهَا، وَأَجْعَلُ ثُلُثًا فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ).

وهنا تظهرُ أهميَّةَ الحكمةِ في التصرُّفات المالية؛ فإنَّ بعض الناس سُفهاء، لا يجوز أن يُوضَعَ المالُ في أيديهم أصلًا، قال -تعالى-: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) (النساء: 5).

أمَّا هذا الرَّجُلُ فإنهُ كان يُحسِنُ ما لا يُحسِنُهُ كثيرٌ مِن الناس، حيثُ قسَّمَ الغِلالَ والمحصُولَ إلى أقسامٍ مُعينةٍ يُصرَفُ كلُّ قسمٍ في مَصرَفٍ مُعيَّنٍ، ولا شكَّ أنه مِن الحكمةِ وحُسنِ التخطيطِ، وبُعدِ النَّظرِ، وحُسنِ التصرُّفِ.

وكانت مَصارِفُ المال لهذا الرَّجُلُ الصالح كما يلي:

المَصرِفُ الأول: الصدقةُ والإنفاقُ في سبيل الله؛ لقوله: (أتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ)، وفي الروايةِ الأُخرَى: (وَأَجْعَلُ ثُلُثًا فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ)، وأصلُ الصدَّقة مأخوذٌ مِن الصِّدق؛ ولهذا يلزم المتصدِّق أن يكون صادقًا.

وللصَّدَقَةِ والإنفاقِ في سبيل الله فضائلُ كثيرةٌ، منها:

- التصدُّقُ والإنفاقُ سببٌ مِن أسبابِ الرِّزق، قال -تعالى-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وفي الحديثِ القُدُسِيِّ: (يَا ابْنَ آدَمَ، ‌أَنْفِقْ ‌أُنْفِقْ عَلَيْكَ) (رواه مسلم).

- الصدقةُ تحفظُ المالَ وتزكيَهُ وتنمِّيَهُ وتُضاعِفَهُ إلى سَبعِمَائَةِ ضِعفٍ، قال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 261).

- المتصدِّقُ يكون في ظل صدقته يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

فلا تحقِرَنَّ مِن المعروفِ شيئًا، تصدَّق ولو بالقليل -إذا لم يكُن معك إلا القليل-، قال -تعالى-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة: 7)، والذَّرَّةُ: صِغارُ النَّملِ، وجاء في الأثر: "تَصَدَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَائِشَةُ بِحَبَّةِ عِنَبٍ، وَقَالا: فِيهَا ‌مَثَاقِيلُ ‌كَثِيرَةٌ".

الْمَصرِفُ الثاني: النفقةُ على الأهلِ والأولادِ؛ لقوله: (آكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا)، والنفقةُ على الأهلِ والأولادِ مِن أفضل ما يَتَقَرَّبُ به المسلمُ إلى ربِّهِ، قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ -أي: إعتَاقِها-، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) (رواه مسلم).

ولقد حذَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِن إهمالِ النَّفقةِ على الأهلِ والولدِ، فقال: (كَفَى بِالْمَرْءِ ‌إِثْمًا ‌أَنْ ‌يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، أي: يكفيِهِ ذنبًا أن يُضيِّعَ مَن يلزمُهُ قوتُهُ ونفقَتُه.

ورخَصَّ الشرعُ للمرأةِ أن تأخُذَ مِن مالِ زوجها ما يكفيها وأولادها إن كان بخيلًا لا يُنفِقُ على البيت، كما في الصحيح عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ ‌رَجُلٌ ‌شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ؛ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: (خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ) (متفق عليه).

الْمَصرِفُ الثالث: الإنفاقُ على سببِ الرِّزقِ؛ لقولِهِ: (أَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ) أي: أُنفِقُ في هذه الحديقة ثُلُثَ ما يخرجُ منها فيما تحتاجُهُ مِن أموالٍ وبُذُورٍ لإعادةِ زراعتها مَرَّةً أخرى.

وهنا تظهرُ أهميَّةَ الأخذِ بالأسبابِ، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك: 15)، ففي الآية حثٌّ على العمل والكسْبِ في التِّجارة والزِّراعة والصِّناعة، وجميعِ أنواع العَمَلِ؛ والسَّعْيُ فِي السَّبَبِ لا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فَأثبَتَ لَهَا رَوَاحًا وَغُدُوًّا لِطَلَبِ الرِّزْقِ، مَعَ تَوَكُّلِهَا عَلَى اللهِ -عز وجل-، وَهُوَ -سبحانهُ- المسَخِّرُ الْمُسَبِّبُ.

وللحديث بقية -إن شاء الله-. 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة