السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

زيجات النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم

زيجات النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم
الجمعة ١٨ أغسطس ٢٠٢٣ - ١٨:٥٣ م
70

 

زيجات النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد عرف تعدد الزوجات في الأمم السابقة قبل ظهور الإسلام بأزمنة طويلة، وعرفه العرب في الجزيرة العربية أيضًا قبل ظهور الإسلام، ثم جاءت أحكام الشريعة الإسلامية لتقييد هذا التعدد المطلق في الزوجات بأربع زوجات لا أكثر، مع وضع ضوابط لهذا التعدد بالقدرة على أعبائه، مع اشتراط العدالة بين الزوجات، فلا يؤثِر الزوجُ زوجةً أو أكثر على الأخريات؛ فيذكر للإسلام إذًا -على خلاف ما يُقَال عنه ويُنسَب إليه- أنه قَيَّد ما كان مطلقًا من تعدد الزوجات، ووضع له ضوابط وشروط.

تعدد الحور العين في الجنة:

من المعلوم أن أهل الجنة يتمتعون بتعدد الزوجات؛ فمنهم مَن له أكثر مِن زوجة مِن الحور العين بلا تقييد، وبلا أي تبعات أو شروط، على ما عليه الحور العين جميعًا من الخِلْقَة الحسنة وحسن العشرة وتعلقهن بأزواجهن في الجنة؛ قال الله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌أَصْحَابَ ‌الْجَنَّةِ ‌الْيَوْمَ ‌فِي ‌شُغُلٍ ‌فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ . لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ . سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس: 55-58)، وقال -تعالى-: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ ‌مُطَهَّرَةٌ ‌وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 25)، وقال -تعالى-: (‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌بِآيَاتِنَا ‌وَكَانُوا ‌مُسْلِمِينَ . ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف: 69 - 70)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌لِلْمُتَّقِينَ ‌مَفَازًا . حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا . وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) (النبأ: 31-33)، وقال -تعالى-: (‌فِيهِنَّ ‌قَاصِرَاتُ ‌الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) (الرحمن: 56-58)، وقال -تعالى-: (‌فِيهِنَّ ‌خَيْرَاتٌ ‌حِسَانٌ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) (الرحمن: 70-74)، وقال -تعالى-: (‌وَعِنْدَهُمْ ‌قَاصِرَاتُ ‌الطَّرْفِ ‌أَتْرَابٌ) (ص: 52)، وقال -تعالى-: (‌وَحُورٌ ‌عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ . جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الواقعة: 22-24)، وقال -تعالى-: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ ‌إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ) (الواقعة: 35-37)، وكونهن (مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، و(‌قَاصِرَاتُ ‌الطَّرْفِ)؛ لشدة الحياء والتعلُّق بأزواجهن، (عُرُبًا): متحببات إلى أزواجهن، (أَتْرَابًا): في سنٍّ متساوية أو متقاربة.

التعدد لدى الأنبياء:

وقد اختص القرآن الكريم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأحكام خاصة في أمر تعدد الزوجات، فهي من خصوصياته من دون باقي الأمة، و(‌مَا ‌كَانَ ‌عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: 38)، وهو ما التزم به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ شأنه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك شأن كل الرسل والأنبياء من قبله، كما قال -تعالى- (‌الَّذِينَ ‌يُبَلِّغُونَ ‌رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39).

ومن المعلوم أن هناك أنبياء في أزمان متقدمة تعددت زوجاتهم بلا نكير، لعل مِن أشهرهم: داود وسليمان -عليهما السلام-، وهذا يقر به أهل الكتاب ومذكور في كتبهم، وإن عدوا داود وسليمان -عليهما السلام- من ملوكهم لا من أنبيائهم، ولكن فيه إقرار منهم بوقوع التعدد في أزمانهم. 

قال ابن كثير -رحمه الله-: (وقد ذكر غير واحد من السَّلَف: أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة، سبعمائة بمهور، وثلاثمائة سراري. وقيل العكس: ثلاثمائة حرائر، وسبعمائة من الإماء، وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرًا عظيمًا جدًّا. وقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ، فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ)، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (راجع: قصص الأنبياء لابن كثير)

وهذا التعدد في زوجات الأنبياء داخل في عموم قوله -تعالى-: (‌وَلَقَدْ ‌أَرْسَلْنَا ‌رُسُلًا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) (الرعد: 38)، وفي شأن أيوب -عليه السلام- قال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ ‌إِذْ ‌نَادَى ‌رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83-84).

تقييد الإسلام لمطلق التعدد:

كان تعدد الزواج معروفًا عند العرب قبل ظهور الإسلام، وجَرَى الأمر على ذلك بين المسلمين أول الإسلام، وجاء التحديد بالمثنى والثلاث والرباع في سورة النساء وهي سورة مدنية، وأحكامها جاءت متأخرة، فكان العمل بها متأخرًا أيضًا؛ خاصة مع مَن أسلم وتحته الكثير من الزوجات؛ إذ كان ذلك معروفًا مشهورًا، ففي الحديث: "أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختار منهن أربعة"، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي، وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه، وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال: هذا الحديث غير محفوظ، وروى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح والعمل عليه، وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة، وقد أطال الدارقطني في العلل تخريج طرقه. وفي الباب حديث قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت رسول الله، فذكرت ذلك له، فقال: "اختر منهن أربعًا"، رواه أبو داود وابن ماجه، وعند الشافعي عن نوفل بن معاوية أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي: أمسك أربعًا وفارق الأخرى، وفي إسناده رجل مجهول. 

وفي الباب أيضًا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقي، وقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو من مقال، وذكر أن الإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع، وأن ما ذكر عن الظاهرية ومَن وافقهم أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعًا مسبوق بالإجماع، قال في الفتح: اتفق العلماء على أن من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن. (راجع نيل الأوطار، للشوكاني).

وعليه كان تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعديد من الزوجات، وقد تزوج أول ما تزوج من خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، وكان عمره في نحو الخامسة والعشرين، وكانت هي أكبر منه سنًّا، وعاش معها حتى أدركته النبوة وهو في الأربعين، ومكث معها بعدها نحو عشر سنين لم يتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- على خديجة في حياتها غيرها حتى تجاوز الخمسين من العمر، أي: عاش معها ربع قرن من الزمان أو يزيد، كان خلال ذلك في عنفوان شبابه ولديه متسع للزواج، وأمامه الأبكار قبل الثيبات، وهو ميسور الحال، كما قال -تعالى-: (‌وَوَجَدَكَ ‌عَائِلًا ‌فَأَغْنَى) (الضحى: 8).

وأمر تعدد الزوجات كان شائعًا عند العرب بلا نكير أو ملامة، ثم تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة -رضي الله عنها- لتقوم برعاية بناته الأربع وشئون بيته، خاصة مع انشغاله بأعباء الدعوة إلى الله -تعالى-، ثم عقد بعدها -وهو ما زال في مكة- على عائشة ابنة صديق عمره الحميم أبي بكر الصديق، وكانت في التاسعة من عمرها، ثم دخل بعائشة بعد الهجرة إلى المدينة. 

وتعددت زيجات النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في ظل إباحة التعدد في أول الأمر بلا قيود؛ منها زيجات قَوَّى به صداقاته وعلاقاته مع المقربين إليه، كزواجه من عائشة ابنة أبي بكر، ومنها زواجه من حفصة ابنة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- الجميع، ومنها ما كان تطييبًا للنفوس وتأليفًا للقلوب كزواجه من أم سلمة -رضي الله عنها- بعد وفاة زوجها أبي سلمة -رضي الله عنه-، وكزواجه من صفية بنت حيي بعد غزوة خيبر، وكانت ابنة أحد رؤساء اليهود. 

ومنها زواجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- لما مات زوجها وهي في الحبشة، ومنهن مَن كان مهرها عتقها كجويرية -رضي الله عنها-، التي نالت بزواجها من النبي -صلى الله عليه وسلم- حريتها التي كانت تتطلع إليها وهمت بالمكاتبة من أجلها، وغير ذلك من الأسباب.

زواجه -صلى الله عليه وسلم- من مطلقة دعيه زيد بن حارثة -رضي الله عنه-:

من الأمور المتعلقة بزيجاته -صلى الله عليه وسلم- ما قَدَّره الله -تعالى- من زواجه -صلى الله عليه وسلم- من مطلقة دعيه زيد بن حارثة بعد مفارقته لها وانصرافه عنها، وذلك لإبطال عادة مساواة الابن بالتبني بالابن من الصلب التي كانت مستحكمة عند العرب في ذلك الوقت، وهو ما سجَّله القرآن الكريم في سياق إبطال هذه العادة؛ لما فيها من الظلم البين.

ولهذا الزواج قصة:

فقد كان العرب قبل الإسلام يعاملون الابن بالتبني معاملة الابن من الصلب، ويرتبون على ذلك أحكاماً، منها: تحريم زوجة الدعي (الابن بالتبني) كتحريم زوجة الابن من الصلب تمامًا، فإن فارق الدعي زوجته وطلقها لعدم حاجته إليها حرموا على المتبني له الزواج منها، ويثورون غاية الثورة على مَن يخالف هذه العادة الموروثة وهذا التقليد المتبع، مع ما في مساواة الابن بالتبني بالابن من الصلب في أمور ليست هي من حقه قطعًا، وينتج عنها مخالفات كبيرة؛ إذ إنه يشارك الورثة الحقيقيين في ميراثهم، ويخلو ببنات الرجل المتبني له كأخ لهم، وحقيقة الأمر أنه ليس من محارمهم فليس له أن يخلو بهن أو ينفرد بالسفر معهن، فنزلت الآيات بتحريم التبني وإنهائه، مع جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة الأولى في التطبيق وتحمل تبعاته.

كان زيد بن حارثة عبدًا للسيدة خديجة -رضي الله عنها-، فوهبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأعتقه وصار مولى له، وأعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الكعبة تبنيه له وعَلِم الجميع بذلك، وأُطلِق عليه من وقتها: زيد بن محمد، وبتقدير من الله -تعالى- خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش لمولاه زيد، فأبت وامتنعت وامتنع أخوها؛ إذ هي هاشمية وزيد مولى (كان عبدًا فأعتق)، وكانت زينب ابنة عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- (ابنة أميمة بنت عبد المطلب)، وقد تربت زينب تحت نظر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويعرفها جيدًا، ومن هنا خطبها لزيد الذي كان بمنزلة الابن له، لكنها رفضته.

وبتدبير من الله -تعالى- نزل قوله -تعالى-: (‌وَمَا ‌كَانَ ‌لِمُؤْمِنٍ ‌وَلَا ‌مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب: 36)، فقبلت زينب الزواج منه، وتزوجته طاعة لله ورسوله، ولكن العشرة بينهما لم تدم، إذ سرعان ما اشتكى زيد منها مرارًا وهمَّ بفراقها، والرسول يحاول إثناءه عن طلاقها، وهو يشتكي من تعاليها عليه حتى سمح له بطلاقها، فطلقها وفارقها بتقدير من الله -تعالى-، فزوجها الله -تعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلتفت إليها كزوجة وهي بكر، واختارها لزيد، وزوَّجه الله -تعالى- بها وهي ثيب بعد أن فارقها زيدًا راغبًا عنها، فانفردت -رضي الله عنها- من بين زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الله -تعالى- هو الذي زوَّجها به، فكانت لها فضيلة، أما غيرها من الزوجات فزوجهن أهلهن، فجاء هذا الزواج ليمزق عادة التبني تمزيقًا، ويرفع الحرج تمامًا عن كلِّ مَن يقوم بعد ذلك بالزواج مِن مطلقة مَن كان يتبناه؛ إذ تحمَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه عبء ومشقة ما سيتعرض له من حرجٍ شديدٍ في قومه.

وفي تلك القصة نزلت الآيات الكريمة:

- في تحريم التبني وإلغاء كل ما كان يترتب عليه عند العرب قبل الإسلام، قال الله -تعالى-: (‌مَا ‌جَعَلَ ‌اللَّهُ ‌لِرَجُلٍ ‌مِنْ ‌قَلْبَيْنِ ‌فِي ‌جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ . ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) (الأحزاب: 4-5)، وجعل الإسلام التبني كالظهار منكرًا من القول وزورًا بعد أن قَرَن بينهما، قال -تعالى-: (‌الَّذِينَ ‌يُظَاهِرُونَ ‌مِنْكُمْ ‌مِنْ ‌نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (المجادلة: 2)، فقد جعل الظهار الزوجة كالأم في التحريم، وجعل التبني الدعي كالابن من الصلب في الحقوق والأحكام، وكلاهما مخالف ومجاف للحقيقة، فألغى الإسلام ما كان معمولًا به بين العرب من التبني وعدَّه كالظهار الذي وصفه الله -تعالى- بأنه منكر من القول وزور. 

وعلى ذلك نُسِب زيد -رضي الله عنه- لأبيه وقومه على الحقيقة، فصار هو زيد بن حارثة لا زيد بن محمد كما كان يطلق عليه من بعد تبني النبي -صلى الله عليه وسلم- له. 

- في تزويج الله -عز وجل- زينب بنت جحش -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم- مخالفة لما كانت عليه عادة العرب الموروثة في تحريم زوجة الدعي على الأب بالتبني إذا طلقها الدعي، قال -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌تَقُولُ ‌لِلَّذِي ‌أَنْعَمَ ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا . مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا . الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا . مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب: 37-40).

القرآن يبيح التعدد أولًا بلا قيد:

قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 50)، وقد توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عصمته تسع نسوة، هن: سودة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وصفية، وجويرية، وأم حبيبة، وميمونة، وتوفيت في حياته من زوجاته: خديجة، وزينب أم المساكين.

- ومع إباحة هذا التعدد في الزوجات للنبي -صلى الله عليه وسلم- جاءت أحكام أخرى معها خاصة به دون غيره، قال الله -تعالى-: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) (الأحزاب: 51)، ومعلوم أن سورة الأحزاب وما فيها من أحكام نزلت عقب غزوة الأحزاب التي كانت في شوال من السنة الخامسة للهجرة على أرجح القولين.

قيد خاص بتعدد الزوجات في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-: 

ثم انفرد النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكمٍ جاء فيه تقييد تزوجه بالنساء لا يسري على غيره؛ إذ منع -صلى الله عليه وسلم- عند صدور هذا الحكم من التزوج بنساء غير اللاتي في عصمته وقت صدور الحكم، فلا يتعدَّى عدد زوجاته العدد الذي في عصمته عند نزول الحكم، وليس له أن يستبدل إحدى زوجاته فيطلقها ويتزوج غيرها، فلو طلق زوجة -أو زوجات- منهن، أو توفيت إحدى زوجاته أو بعضهن، فليس له أن يتزوج غيرها، رغم أن هذا أمر مباح لسائر رجال الأمة، حتى بعد تقييد زواج المسلم بأربعة نساء، مع اشتراط العدل بينهن في قوله -تعالى-: (‌فَانْكِحُوا ‌مَا ‌طَابَ ‌لَكُمْ ‌مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) (النساء: 3)، فللمتزوج بأربع نساء إن طلق إحدى نسائه الأربع أو توفيت إحداهن أن يتزوج غيرها، كما قال -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌أَرَدْتُمُ ‌اسْتِبْدَالَ ‌زَوْجٍ ‌مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (النساء: 20)، بينما قال الله -تعالى- في حقِّ نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌يَحِلُّ ‌لَكَ ‌النِّسَاءُ ‌مِنْ ‌بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) (الأحزاب: 52).

حكمة ظاهرة في زيادة زوجاته -صلى الله عليه وسلم- على الأربع:

لما نَزَل تقييد زواج المسلم بأكثر مِن أربع نساء وفراق مَن كان له أكثر مِن أربع نساء ما زاد عن الأربع؛ لم يسرِ هذا الحكم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأبقى كلَّ مَن كُنَّ في عصمته من النساء، مع الامتناع عن الزيادة عليهن، أو استبدال إحداهن بأخرى ولو أعجبته.

ولهذا حكمة ظاهرة عند التأمل، وذلك:

- أن الشرع عَدَّ زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثابة أمهات للمسلمين، ولا يحل لمسلم أن يتزوج بأي منهن إن فارقها النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (‌النَّبِيُّ ‌أَوْلَى ‌بِالْمُؤْمِنِينَ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِهِمْ ‌وَأَزْوَاجُهُ ‌أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا ‌سَأَلْتُمُوهُنَّ ‌مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) (الأحزاب: 53)، فتعيَّن على ذلك إبقائهن جميعًا في عصمته وعدم مفارقته -صلى الله عليه وسلم- لما زاد عن الأربع منهن، ليجدن جميعًا لديه العفاف والنفقة والرعاية التي تحتاج إليها كل امرأة، وإلا فمن يفارقها النبي -صلى الله عليه وسلم- زيادة على الأربع أين تذهب ومَن يعفها ومَن يعولها؟ 

- أنهن لما خَيَّر الله -تعالى- كلَّ واحدة منهن بلا استثناء بين البقاء في عصمته -صلى الله عليه وسلم- واستمرار زواجه منها على ما في البقاء معه من الصبر على شظف العيش، وبين أن تفارقه بإحسان، وكن قد اشتكين جميعًا من ضيق العيش، فنزل قرآنًا يُتلَى على الملأ أمام الجميع أن لكل منهن الحرية الكاملة في اختيار إبقاء علاقتها الزوجية مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والصبر على ضيق العيش معه، أو إنهاء تلك العلاقة الزوجية، والتفريق بإحسان، قال -تعالى-: (‌يَا أَيُّهَا ‌النَّبِيُّ ‌قُلْ ‌لِأَزْوَاجِكَ ‌إِنْ ‌كُنْتُنَّ ‌تُرِدْنَ ‌الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا . يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا  . وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا . يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 28-33).

وجاء الرد منهن جميعًا أمام الجميع: أن كلَّا منهن اختارت بكامل إرادتها البقاء مع النبي -صلى الله عليه وسلم- رغم تعدد زوجاته، وشظف وضيق العيش الذي كان عليه، وزهده في الدنيا ورغبته القوية الصادقة في الآخرة، فكان من اللائق بهن -مكافأة لهن- على ذلك إبقاؤهن جميعًا في عصمته مع رغبتهن فيها، وحرصهن عليها -رضي الله عنهن جميعًا-.

- أنهن أفدن الأمة إفادة عظيمة بما كان لديهن من علم ومعرفة بكلِّ تفاصيل حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- داخل بيوتهن، فحفظن هذه التفاصيل بدقائقها، ونقلنها للأمة، قال الله -تعالى-: (‌وَاذْكُرْنَ ‌مَا ‌يُتْلَى ‌فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) (الأحزاب: 34)، فكانت حياة كل واحدة معه لسنوات تتلو معه القرآن وتتعلم منه معانيه وأحكامه، وترى وتحفظ من هديه الباطن الذي يغيب عن الكثيرين إلى جانب هديه الظاهر الذي يطلع عليه الجميع، ثم تخبر وتنشر وتعلم الأمة من بعده -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك، وتجيب عن كل الأسئلة التي تطرح عليها في هذا الشأن بقدر ما كانت حياتها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقدرتها على الحفظ والتعلم والتعليم، وعلى قدر حاجة الأمة إلى ما تعلمته من هديه -صلى الله عليه وسلم-، حتى عدت عائشة -رضي الله عنها- من أكابر جيل الصحابة عِلْمًا وتعليمًا للأمة؛ لكونها كانت أطول زوجاته في مدة زواجها معه في المدينة، حيث كانت تتوالى الأحكام الشرعية في مختلف شئون الحياة، وكانت هي أصغر زوجاته سنًّا، فطال بقاؤها بعده، وكانت هي أحرصهن على طلب العلم وتعليمه، فنالت تلك المنزلة العالية بلا منازعة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة