الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (128) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (3)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (128) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (3)
الأربعاء ٢٣ أغسطس ٢٠٢٣ - ١٤:١٨ م
42

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (128) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال أحمد عن عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل يُقَال له: "ذو البِجادين": إنه أواه"، وذلك أنه رجل كثير الذِّكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء. رواه ابن جرير. (قلتُ: إسناده ضعيف).

وقال سعيد بن جبير، والشعبي: الأواه: المسبِّح. وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لا يحافظ على سُبْحة الضحى إلا أواه. وقال شفي بن ماتع، عن أيوب: الأواه: الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وعن مجاهد: الأواه: الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سرًّا، ثم يتوب منه سرًّا. ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم -رحمه الله-.

وروى ابن جرير: عن الحسن بن مسلم بن يَنَاق: أن رجلًا كان يكثر ذكر الله ويسبح، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنه أواه". (قلتُ: إسناده ضعيف).

وروى أيضًا بسنده عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن ميتًا، فقال: "رحمك الله إن كنت لأواهًا" يعني: تلاءً للقرآن (قلتُ: وفيه حجاج بن أرطأة مدلس وقد عنعنه، فالإسناد ضعيف).

وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلًا بمكة -وكان أصله روميًّا، وكان قاصًّا- يحدث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه: "أوه أوه"، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه أواه"، قال: فخرجتُ ذات ليلة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدفن ذلك الرجل ليلًا ومعه المصباح. هذا حديث غريب رواه ابن جرير. (قلتُ: هذا حديث ضعيف لجهالة هذا الرجل، ولا يشرع أن يقول الإنسان أوه أوه من غير ذكر آخر. والله أعلى وأعلم).

وروي عن كعب الأحبار أنه قال: سمعتُ إن إبراهيم لأواه، قال: كان إذا ذكر النار قال: "أوه من النار". وقال ابن جريج عن ابن عباس: إن إبراهيم لأواه، قال: فقيه.

قال الإمام أبو جعفر بن جرير: وأولى الأقوال قول مَن قال: إنه الدَّعَّاء، وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله -تعالى- لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليمًا عمن ظلمه وأناله مكروهًا؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46، 47)، فحلم عنه مع أذاه له، ودعا واستغفر؛ ولهذا قال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)".

(قلتُ: مع أن ابن جرير -رحمه الله- رجَّح أنه الدَّعَّاء كثير الدعاء؛ إلا أنه ذكر في لوازم ترجيحه ما يجمع الأقوال المختلفة، فالظاهر جمع هذه الأقوال؛ قال ابن جرير -رحمه الله-: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القول الذي قاله عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه زِرٌ أنه الدعاء، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله ذَكَر ذلك ووصف به إبراهيم خليله -صلوات الله عليه- بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وَتَرَكَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِبْرَاهِيمَ لَدَعَّاءٌ رَبَّهُ، شَاكٍ لَهُ، حَلِيمٌ عَمَّنْ سَبَّهُ وَنَالَهُ بِالْمَكْرُوهٍ، وذلك أنه -صلوات الله عليه- وَعَد أباه بالاستغفار له ودعاء الله له بالمغفرة عند وعيد أبيه إياه، وتهدده له بالشتم -يقصد الرجم؛ لأنه رجَّح أنَّ (لَأَرْجُمَنَّكَ) هي لأشتمنك- بعد ما رَدَّ عليه نصيحته في الله، وقوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم: 46)، فقال له -صلوات الله عليه-:  (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 48)، فوفَّى لأبيه بالاستغفار له حتى تبيَّن له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دعاء لربه حليم عمن سفه عليه. وأصله من التأوه وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق.

وذكر حديث عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل يقال له ذو البجادين: "إنه أواه!"، وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء ويرفع صوته؛ ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: لِمَ تتأوه؟ كما قال الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ:

إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ             تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

ومنه قول الجَعْدِيِّ:  

ضَرُوحٌ مَرُوحٌ تَتْبَعُ الْوُرْقَ بَعْدَ مَا            يُعَرِّسْنَ تَشْكُو آهَةً وَتَذَمُّرَا

ولا تكاد العرب تنطق منه بفعل يفعل، وإنما تقول فيه: تفعل يتفعل، مثل تأوه يتأوه، وأوه يؤوه، كما قال الراجز: "فَأَوَّهَ الرَّاعِي وَضَوْضَى أَكْلُبُهْ"، وقالوا أيضًا: "أوه منك!"، ذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده:

فَأَوَّهْ مِنَ الذِّكْرَى إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا      وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ

قال: وربما أنشدنا: "فأو من الذكرى" بغير هاء.

ولو جاء فعل منه على الأصل لكان: آهَ يَئُوهُ أَوَّهَا؛ ولأن معنى ذلك: توجع وتحزن وتضرع؛ اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت، فقال مَن قال معناه الرحمة: أن ذلك كان مِن إبراهيم على وجه الرقة على أبيه والرحمة له ولغيره من الناس. وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه وحسن معرفته بعظمة الله وتواضعه له. وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل أحد الذي أُنزِل عليه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر ربه. وكل ذلك عائد إلى ما قلتُ، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض؛ لأن الحزين المتضرع إلى ربه الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وَجَّه المفسِّرون إليها تأويل قول الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)" (انتهى كلام ابن جرير).

قلتُ: وهذا يدل على أنه رَجَّح التلازم بين المعاني المذكورة، وأن الدَّعَّاء في الحقيقة لا بد أن يكون مؤمنًا موقنًا رحيمًا ذاكرًا متضرعًا لله -سبحانه وتعالى-، وكثير الذكر، وكذا كثير التسبيح، فكل هذه المعاني ثابتة متلازمة؛ فهذا ترجيح ابن جرير، والله أعلى أعلم.

وفي الآيات فوائد نذكرها في المقال القادم -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة