السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية

البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية
السبت ٠٢ سبتمبر ٢٠٢٣ - ١٠:٥١ ص
113

 

البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمما لا شك فيه أن انتشار البدع بين الناس في مسائل الاعتقاد وفي العبادات من أسباب وقوع الاختلاف في الأمة وبعدها عن تعاليم دينها، وبالتالي إصابتها بالفرقة والضعف والوهن في الدنيا، ووقوعها في الاعتقادات الضالة ورد الأعمال الصالحة والعبادات، واستحقاق الوعيد بدخول النار في الآخرة؛ لذا جاءت الأحاديث النبوية الشريفة العديدة في التحذير الشديد من الوقوع في الابتداع في الدِّين، والتنفير من البدع وأهلها. 

وعلى هذا جَرَى عمل أهل السنة والجماعة والسلف الصالح ومَن سار على دربهم جيلًا بعد جيلٍ من سرعة الرصد للبدع والحزم في مواجهتها والتعامل معها، والتحذير منها، فعن أبي الدرداء أنه قال: "لو خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة"؛ قال الأوزاعي: "كيف لو كان اليوم؟"، قال عيسى بن يونس: "فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟!". 

وعن أم الدرداء قالت: "دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمدٍ إلا أنهم يصلون جميعًا"، وعن أنس بن مالك قال: "ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله غير قولكم: لا إله إلا الله، قلنا: بلى يا أبا حمزة؟ قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس؛ أفكانت تلك صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!"، وعن أنس قال: "لو أن رجلًا أدرك السلف الأول ثم بُعِث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا، ووضع يده على خده، ثم قال: إلا هذه الصلاة"، وعن ميمون بن مهران قال: "لو أن رجلًا أنشر فيكم من السَّلَف ما عرف غير هذه القبلة"، وعن سهل بن مالك عن أبيه قال: "ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة" (راجع كتاب: "الاعتصام" للإمام الشاطبي)

وفي هذه الآثار وما شابهها إشارة إلى وقوع الاختلاف والابتداع في الدين من أزمان بعيدة، بل من عهد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- لصحابته -رضي الله عنهم-: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي ‌فَسَيَرَى ‌اخْتِلَافًا ‌كَثِيرًا، ‌فَعَلَيْكُمْ ‌بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وإنها تتكاثر مع مرور الزمان إلى الآن.

الأمر بالتمسك بالسنة في القرآن الكريم: 

قال الله -تعالى-: (‌فَلَا ‌وَرَبِّكَ ‌لَا ‌يُؤْمِنُونَ ‌حَتَّى ‌يُحَكِّمُوكَ ‌فِيمَا ‌شَجَرَ ‌بَيْنَهُمْ ‌ثُمَّ ‌لَا ‌يَجِدُوا ‌فِي ‌أَنْفُسِهِمْ ‌حَرَجًا ‌مِمَّا ‌قَضَيْتَ ‌وَيُسَلِّمُوا ‌تَسْلِيمًا) (النساء: 65)، وقال -تعالى-: (‌وَمَا ‌آتَاكُمُ ‌الرَّسُولُ ‌فَخُذُوهُ ‌وَمَا ‌نَهَاكُمْ ‌عَنْهُ ‌فَانْتَهُوا) (الحشر: 7)، وقال -تعالى-: (‌لَقَدْ ‌كَانَ ‌لَكُمْ ‌فِي ‌رَسُولِ ‌اللَّهِ ‌أُسْوَةٌ ‌حَسَنَةٌ ‌لِمَنْ ‌كَانَ ‌يَرْجُو ‌اللَّهَ ‌وَالْيَوْمَ ‌الْآخِرَ) (الأحزاب: 21)

ذكر الشيخ ابن العثيمين -رحمه الله- أن الآية تشمل معنيين: (الأول: وهو أن كل ما يفعله فهو حسن، فالتأسي به حسن. الثاني: فإننا مأمورون بأن نتأسى به أسوة حسنة، لا نزيد على ما شرع ولا ننقص عنه، لأن الزيادة أو النقص ضد الحسن ولكننا مأمورون بأن نتأسى به)، و(أخذ العلماء من هذه الآية أن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة يحتج بها ويقتدَى به فيها إلا ما قام الدليل على أنه خاص به) (شرح رياض الصالحين)

وقال -تعالى-: (‌مَنْ ‌يُطِعِ ‌الرَّسُولَ ‌فَقَدْ ‌أَطَاعَ ‌اللَّهَ) (النساء: 80)، وقال -تعالى-: (‌فَلْيَحْذَرِ ‌الَّذِينَ ‌يُخَالِفُونَ ‌عَنْ ‌أَمْرِهِ ‌أَنْ ‌تُصِيبَهُمْ ‌فِتْنَةٌ ‌أَوْ ‌يُصِيبَهُمْ ‌عَذَابٌ ‌أَلِيمٌ) (الأحزاب: 34). قال الشيخ ابن العثيمين: (ففي هذا دليل على وجوب قبول أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الذي يخالف عنه مهدَّد بهذه العقوبة: (‌أَنْ ‌تُصِيبَهُمْ ‌فِتْنَةٌ ‌أَوْ ‌يُصِيبَهُمْ ‌عَذَابٌ ‌أَلِيمٌ) (شرح رياض الصالحين).

وفي السنة النبوية: 

عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي ‌فَسَيَرَى ‌اخْتِلَافًا ‌كَثِيرًا، ‌فَعَلَيْكُمْ ‌بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌فَإِذَا ‌نَهَيْتُكُمْ ‌عَنْ ‌شَيْءٍ ‌فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (متفق عليه)، قال الشيخ ابن العثيمين: (فإن هذا يدخل في المحافظة على السنة) (شرح رياض الصالحين).

النهي عن الابتداع في الدِّين:

قال -تعالى-: (‌وَأَنَّ ‌هَذَا ‌صِرَاطِي ‌مُسْتَقِيمًا ‌فَاتَّبِعُوهُ ‌وَلَا ‌تَتَّبِعُوا ‌السُّبُلَ ‌فَتَفَرَّقَ ‌بِكُمْ ‌عَنْ ‌سَبِيلِهِ ‌ذَلِكُمْ ‌وَصَّاكُمْ ‌بِهِ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ) (الأنعام: 153)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌فَرَّقُوا ‌دِينَهُمْ ‌وَكَانُوا ‌شِيَعًا ‌لَسْتَ ‌مِنْهُمْ ‌فِي ‌شَيْءٍ ‌إِنَّمَا ‌أَمْرُهُمْ ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌ثُمَّ ‌يُنَبِّئُهُمْ ‌بِمَا ‌كَانُوا ‌يَفْعَلُونَ) (الأنعام: 159)، وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌مَنْ ‌أَحْدَثَ ‌فِي ‌أَمْرِنَا ‌هَذَا ‌مَا ‌لَيْسَ ‌مِنْهُ ‌فَهُوَ ‌رَدٌّ) (متفق عليه)، وفي رواية: (‌مَنْ ‌عَمِلَ ‌عَمَلًا ‌لَيْسَ ‌عَلَيْهِ ‌أَمْرُنَا ‌فَهُوَ ‌رَدٌّ) (رواه مسلم)، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته (أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّ ‌خَيْرَ ‌الْحَدِيثِ ‌كِتَابُ ‌اللهِ. ‌وَخَيْرُ ‌الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ. وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا. وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (متفق عليه).

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"، وعنه قال: "وستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق"، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع" (انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ).

المراد بالابتداع في الدِّين: 

(أصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله -تعالى-: (‌بَدِيعُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ) (البقرة: 117)، أي: مخترعهما على غير مثال سابق متقدم، وقوله -تعالى-: (‌قُلْ ‌مَا ‌كُنْتُ ‌بِدْعًا ‌مِنَ ‌الرُّسُلِ) (الأحقاف: 9)، أي: ما كنت أول مَن جاء بالرسالة مِن الله إلى العباد، بل تقدمني كثير مِن الرسل. ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع: يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. ومن هنا سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، ويسمى العلم المعمول على ذلك بدعة، فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة) (راجع كتاب: الاعتصام).

فالبدعة في الدين تقال في مواجهة السنة النبوية، فكل ما ثبت بالأدلة الشرعية فهو من سنته -صلى الله عليه وسلم-، ويشرع التقرب به إلى الله -تعالى- في أمور الاعتقاد والعبادات، والأقوال والأفعال. وأما كل ما خالف هذه السنة مما لا دليل من الشرع عليه، فلا يشرع التقرب إلى الله -تعالى- به، في أمور الاعتقاد والعبادات والأقوال والأفعال، ويطلق عليه أنه بدعة، فالبدعة نقيض السنة. والسنة بمفهومها الشامل تتضمن كل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمور الاعتقاد والعبادات والسلوكيات، مما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله، أو أمر به أو نهى عنه، أو سكت عليه وأقره.

تعريف البدعة:

ذكر الإمام الشاطبي تعريف البدعة بأنها: (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) (الاعتصام).

(طريقة في الدين): إنما قُيِّدت الطريقة بالدين؛ لأنها فيه تخترع، وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في أمور الدنيا على الخصوص لم تسمَّ بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم. والطرائق في الدين تنقسم إلى ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، وخص منها ما هو المقصود بالتعريف وهو القسم المخترع، أي: طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما بيَّنه الشارع. 

و(تضاهي الشرعية) أي: أنها طريقة تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية. وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي حتى يكون ملبِّسًا بها على الغير، أو تكون مما تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا ولا يدفع به ضررًا، ولا يجيبه غيره إليه؛ لذا تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير. 

(يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله -تعالى-): وهو تمام معنى البدعة؛ إذ هو المقصود بتشريعها، وذلك أن أصل الدخول في البدعة الحث على عبادة والترغيب فيها، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبيَّن له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة، مع ما بداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة. 

وأيضًا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جُدد لها أمر لا تعهده حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا: لكل جديدة لذة بحكم هذا المعنى، كمَن قال: كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور. (وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسب مخصوصة، وقدر مخصوص مما يشبه الزكوات، ولم يكن إليها ضرورة. وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان، وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن من قبل فإنها لا تسمى بدعًا) (الاعتصام).

المراد بالبدعة الحقيقية والبدعة الإضافية:

تنقسم البدعة من جهة وجود الدليل عليها إلى بدعة حقيقية وبدعة إضافية:

- فـ(البدعة الحقيقية هي التي لم يدل عليها دليل شرعي؛ لا من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا التفصيل؛ ولذلك سميت بدعة -كما تقدم ذكره-؛ لأنها شيء مخترع على غير مثال سابق، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع، إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة، لكن تلك دعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر، أما بحسب نفس الأمر فبالعرض، وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست أدلة إن ثبت أنه استدل، وإلا فالأمر واضح).

ومن أمثلة البدع الحقيقية: الطواف بغير الكعبة كالطواف بالأضرحة، وكالوقوف على غير عرفة، وكالتقرب إلى الله -تعالى- بالرهبانية، بالمبالغة في العبادة بالرياضات النفسية والانقطاع عن الناس، وترك الزواج مع ووجود الداعية إليه، كما في رهبانية النصارى المذكورة في قوله -تعالى- (‌وَرَهْبَانِيَّةً ‌ابْتَدَعُوهَا ‌مَا ‌كَتَبْنَاهَا ‌عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: 27)، ومن ذلك ما يفعله الشيعة في إيران يوم عاشوراء من خدش الوجوه والرؤوس واللطم والنواح؛ لكون الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- قُتِل في يوم عاشوراء، فيفعلون كل هذه المخالفات الشرعية زاعمين أنها تقربهم من الله -تعالى-!

- (وأما البدعة الإضافية فهي التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق مثل ما للبدعة الحقيقية، فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضع له هذه التسمية، وهي البدعة الإضافية، أي: أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة؛ لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة؛ لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شيء.

والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدليل عليها من جهة الأصل القائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها محتاجة إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العادات المحضة) (الاعتصام).  

فالبدعة الإضافية لها من الأدلة متعلق فلا تكون مخالفة للشرع من هذه الجهة، ولها كذلك جهة ليس لها متعلق من الشرع فهي به بدعة، أي: أنها إلى إحدى الجهتين موافقة للشرع مستندة إلى دليل، وبالنسبة للجهة الأخرى بدعة؛ لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة لشيء.

ومن أمثلة البدعة الإضافية:

- صلاة الرغائب: وهي اثنتا عشرة ركعة في ليلة الجمعة الأولى من شهر رجب بكيفية مخصوصة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، و(‌إِنَّا ‌أَنْزَلْنَاهُ ‌فِي ‌لَيْلَةِ ‌الْقَدْرِ) (القدر: 1)، و(‌قُلْ ‌هُوَ ‌اللَّهُ ‌أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) اثنتي عشر مرة. قال الإمام النووي في صلاة الرغائب: (ليس لأحدٍ أن يستدل على شرعيتها لما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (‌الصّلَاةُ ‌خَيْرُ ‌مَوْضُوعٍ) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني)، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه).

- صلاة النصف من شعبان: وهي مائة ركعة في النصف من شعبان بكيفية مخصوصة، كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة، (ووجه كونها بدعة إضافية أنها مشروعة باعتبار، غير مشروعة باعتبار آخر؛ فأنت إذا نظرت إلى أصل الصلاة تجدها مشروعة؛ لحديث رواه الطبراني في الأوسط: (‌الصّلَاةُ ‌خَيْرُ ‌مَوْضُوعٍ)، وإذا نظرتَ إلى ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة تجدها بدعة؛ فهي مشروعة باعتبار ذاتها، مبتدعة باعتبار ما عرض لها.

- تخصيص يوم لم يخصه الشارع بصوم أو ليلة لم يخصها الشارع بقيام، فالصوم في ذاته مشروع وقيام الليل كذلك، وتخصيصهما بيوم وبليلة بدعة) (راجع: الإبداع في مضار الابتداع).

ومن أمثلة البدع الإضافية أيضًا:

- التأذين لصلاة العيدين أو لصلاة الكسوف، فإن الأذان للصلاة قربة، وباعتبار كونه لصلاة العيدين أو الكسوف بدعة؛ إذ ليس لصلاة العيدين والكسوف أذان.

- رفع الصوت بالذكر أو بقراءة القرآن أمام الجنازة، فالذكر باعتبار ذاته مشروع، وكذا قراءة القرآن باعتبار ذاته مشروع، وباعتبار ما عرض له من رفع الصوت غير مشروع، وكذا وضعه في ذلك الموضع (أمام الجنازة) غير مشروع، فهو مبتدع من جهتين: من جهة كيفيته، ومن جهة موضعه.

- الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- عقب الأذان مع رفع الصوت بهما وجعلهما بمنزلة ألفاظ الأذان، فالصلاة والسلام مشروعان باعتبار ذاتهما، ولكنهما بدعة باعتبار ما عرض لهما من الجهر وجعلهما بمنزلة ألفاظ الأذان (راجع: الإبداع في مضار الابتداع).

الإنكار في البدع الإضافية: 

البدع الإضافية داخلة في عموم البدع المنهي عنها، ولكن لكونها فيها شبهة تحتاج في إنكارها إلى معرفة بأقوال العلماء فيها، وتحتاج إلى حسن تعليم للناس عند بيان بدعيتها؛ نظرًا لعدم دراية فاعلها بحقيقة ووجه مخالفة الشرع فيها، مع رفق ولين.

قال الشيخ على محفوظ: (وبهذا تعلم بأن مَن ينكر البدعة المذكورة إنما ينكرها بالاعتبار الثاني، فالاعتراض عليه منشؤه عدم الدراية بحقيقة البدعة، وبما يقصده المنكِر لها، وعلى المرشد أن يكون حكيمًا في مثل هذه البدع الإضافية فينبه الناس إليها برفق ولين، ولا يكون مثار فتنة. هذا وإن صاحب البدعة الإضافية يتقرب إلى الله -تعالى- بمشروع وغير مشروع كما علمت من الأمثلة السابقة، والتقرب يجب أن يكون بمحض المشروع؛ إذ لا يقرب العبد إلى الله -تعالى- إلا العمل بما شرع، وعلى الوجه الذي شرع، فكما يجب أن يكون العمل مشروعًا باعتبار ذاته يجب أن يكون مشروعًا باعتبار كيفيته، كما يفيده حديث: (‌مَنْ ‌عَمِلَ ‌عَمَلًا ‌لَيْسَ ‌عَلَيْهِ ‌أَمْرُنَا ‌فَهُوَ ‌رَدٌّ) (رواه مسلم)) (راجع: الإبداع في مضار الابتداع).

فوائد مهمة:

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: (ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية: كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه؟ أم غير بدعة فيعمل به؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذرًا من الوقوع في المحظور، والمحظور هنا هو العمل بالبدعة، فإذًا العامل به لا يقطع بأنه عمل بدعة، كما أنه لا يقطع أنه عمل سنة، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية، ولا يقال أيضًا: إنه خارج عن العمل بها جملة. وبيان ذلك: أن النهي الوارد في المشبهات إنما حماية أن يقع في ذلك في الممنوع الواقع فيه الاشتباه، فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام، فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون أكلًا للميتة في الاشتباه، فالنهي الأخف إذًا منصرف نحو الميتة في الاشتباه، كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقيق) (الاعتصام).

هل لصاحب البدعة الإضافية توبة؟

قال الشيخ على محفوظ: (فالمبتدع بدعة إضافية قد خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وهو يرى أن الكل صالح فلا يدخل فيمَن تُرجَى توبته؛ لأنه لا يرى لنفسه ذنبًا حتى يتوب منه، بل يرى أن كل ما يفعله حسن، ولا توبة لمن لم يعرف لنفسه ذنبًا، ولهذا قال أئمة المسلمين كسفيان الثوري: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها. ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ورسوله قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه أو أنه ترك حسنًا مأمورًا به ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب)، (ولكن التوبة ممكنة وواقعة بأن يهديه الله حتى يتبيَّن له الحق كما هدى -سبحانه وتعالى- مَن هدى مِن الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، فقد يعرض الدليل على المخالف فيرجع لاقتناعه به كما رجع من الحرورية الخارجين على الإمام علي -رضي الله عنه- ألفان، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) (الإبداع).

وقال الشيخ ابن العثيمين -رحمه الله-: (الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقًا للشرع في ستة أمور:

1- السبب: فإذا تعبد الإنسان لله -تعالى- بعبادة مقرونة بسبب ليس شرعيًّا؛ فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل: إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بالتهجد، يدعون أنها ليلة الإسراء والمعراج، فالتهجد في أصله عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة؛ لكونه بني على سبب لم يثبت شرعًا.

2- الجنس: فإذا تعبَّد الإنسان لله -تعالى- بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، كالتضحية بفرس؛ لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم. 

3- القَدْر (بسكون الدال): فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة؛ لأنها مخالفة للشرع في المقدار أو العدد.

4- الكيفية: فلو نكس إنسان الصلاة لما صحت صلاته؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية.

5- الزمان: فلو ضَحَّى إنسان في رجب أو صام رمضان في شوال، أو وقف بعرفات في التاسع من ذي القعدة لما صح ذلك منه؛ لمخالفته للشرع في الزمان.

6- المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد، أو وقف يوم التاسع من ذي الحجة بمزدلفة، لما صح ذلك منه؛ لمخالفته للشرع في المكان (راجع: الإبداع في بيان كمال الشرع).

تنبيه مهم:

الحكم على العمل الحادث أنه بدعة إنما هو حكم جارٍ على وَفْق القواعد العلمية والضوابط الأصولية، فصاحب البدعة قد يكون مجتهدًا، فمثل هذا الاجتهاد -ولو أنه خطأ- فإنه يدرأ عن المجتهد الوصف بالابتداع، وقد يكون صاحب البدعة جاهلًا فينفى عنه -لجهله- الوصف بالابتداع، مع ترتب الإثم عليه لتقصيره في طلب العلم. وقد تكون هناك موانع أخرى من الحكم على مرتكب البدعة بالابتداع، أما مَن أصر على بدعته بعد ظهور الحق له اتباعًا للآباء والأجداد، وجريًا وراء المألوف والمعتاد، فمثل هذا يليق به الوصف بالابتداع؛ لإعراضه عن الحق. فلا يجوز إذًا اتباع سائر مَن قال أو عمل قولًا قد عُلِم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا. (راجع للاستزادة: "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية)

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة