الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (130) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (5)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (130) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (5)
الثلاثاء ٠٥ سبتمبر ٢٠٢٣ - ١٢:٠١ م
40

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (130) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِلنَّبِيِّ ‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌يَسْتَغْفِرُوا ‌لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).

المسألة الثانية: قال القرافي في حكم مَن يطلب المغفرة للكافر:

"اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله -تعالى- له حكم باعتبار ذاته، من حيث هو طلب من الله -تعالى-، وهو الندب؛ لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه، وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه؛ فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له من متعلقاته ما يوجبه أو يحرِّمه، والتحريم قد ينتهي للكفر، وقد لا ينتهي:

فالذي ينتهي للكفر أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يطلب الداعي نفي ما دَلَّ السمع القاطع من الكتاب والسنة على ثبوته، وله أمثلة: الأول: أن يقول: اللهم لا تعذب مَن كفر بك، أو اغفر له! وقد دلت القواطع السمعية على تعذيب كل واحد ممَّن مات كافرًا بالله -تعالى-؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء: 48)، وغير ذلك من النصوص، فيكون ذلك كفرًا؛ لأنه طلب لتكذيب الله -تعالى- فيما أخبر به، وطلب ذلك كفر، فهذا الدعاء كفر" (انتهى من الفروق).

وقال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَاكَ ‌إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107): "وأصح القولين أنه على عمومه، وفيه على هذا التقدير وجهان: أحدهما: أن عمومَ العالمينَ حصل لهم النفعُ برسالتِه؛ أما أتباعُه فنالوا بها كرامةَ الدنيا والآخرة. وأما أعداؤُه المحاربون له، عُجِّل قتْلُهم، وموتُهم خيرٌ لهم من حياتهم؛ لأن حياتَهم زيادةٌ لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كُتِب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خيرٌ لهم من طُولِ أعمارهم في الكفر. وأما المعاهِدُون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرًّا بذلك العهْد من المحاربين له.

وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقنُ دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث، وغيره. وأما الأمم النائية عنه؛ فإن الله -سبحانه- رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.

الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها؛ فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمةً لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض" (انتهى من جلاء الأفهام).

وقال عقيل بن عطية القضاعي في بيان تحريم الدعاء للكافر بالرحمة والمغفرة: "وأما إذا مات الكافر على كفره فلا يجوز الاستغفار له، فإنه لا يغفر له أصلًا؛ لأنه قد سَدَّ على نفسه بالكفر باب الرحمة الموجبة للمغفرة؛ قال الله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌وَصَدُّوا ‌عَنْ ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ? <محمد: 34)، فأخبر أن المغفرة لا تكون للكفار الذين ماتوا على كفرهم.

وقال -تعالى- في مَن يُسِر الكفر: (سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (المنافقون: 6)، وقال -تعالى-: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38)، فعلَّق المغفرة للكفار بالانتهاء عن الكفر، ولا يكون الانتهاء عن الكفر إلا بالإيمان ولا بد، فرجعت المغفرة إلى أصلها الذي قررناه في أهل الإيمان" (انتهى من كتابه: تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلَّفين في العقبى والمآل).

وأما تقييدنا في عذاب الكفار ببلوغ الحجة الرسالية؛ فقد بيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مواضع من كتابه؛ لقول الله -عز وجل-: (‌رُسُلًا ‌مُبَشِّرِينَ ‌وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165)، وقوله -تعالى-: (‌وَأُوحِيَ ‌إِلَيَّ ‌هَذَا ‌الْقُرْآنُ ‌لِأُنْذِرَكُمْ ‌بِهِ ‌وَمَنْ ‌بَلَغَ) (الأنعام: 19).

وقد نقل ابن حزم عقيدةَ أهل السنة في عُذْر مَن لم تبلغة الحجة الرسالية.  

وقد بيَّن الغزالي في الاقتصاد مثل هذا المعنى، في الباب الرابع في بيان مَن يجب تكفيرة مِن الفِرَق، فقال: "والأصل المقطوع به: أن كلَّ مَن كذَّب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر، أي: مُخلَّدٌ في النار بعد الموت، ومستباحُ الدم والمال في الحياة، إلى جملة الأحكام. إلا أن التكذيب على مراتب:

الرتبة الأولى: تكذيب اليهود والنصارى وأهل الملل كلهم من المجوس وعبدة الأوثان، وغيرهم، فتكفيرهم منصوص عليه في الكتاب، ومجمع عليه بين الأمة، وهو الأصل، وما عداه كالملحق به... وقال: بل  أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان -أي في زمانه- تشملُهم الرحمة -إن شاء الله -تعالى-؛ أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: لم يبلغهم اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، فهم معذورون.

الصنف الثاني: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار المُخلَّدُون.

وصِنْفٌ ثالث بين الدرجتين: بلغهم اسم مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبلُغهُم مبعثُه، ولا صفته، بل سَمِعوا منذ الصبا أن كذابًا ملبِّسًا اسمه محمد ادَّعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذابًا يقال له: المقنع تحدَّى بالنبوة كاذبًا؛ فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا صفته سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرِّك داعية النظر والطلب" (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة).

قال ابن حجر الهيتمي: "فانظر كلامَهُ تجده إنما عَذَرَهم لعدم بلوغ دعوته -صلى الله عليه وسلم- لهم. (الإعلام بقواطع الإسلام).

قلتُ: (هذا الكلام إنما هو فيمَن لم تبلغه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى لا إله إلا الله، وأنه رسول الله؛ فأما مَن بلغته: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإنه بنصِّ الحديث معذَّب؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ‌لَا ‌يَسْمَعُ ‌بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ‌يَهُودِيٌّ ‌وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).

ثم إن كلام الغزالي -غفر الله له- في أنهم مرحومون مطلقًا ليس بصحيح، فإن الأحاديث ثبتت بوجوب اختبارهم يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ، وَرَجُلٌ ‌أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ ‌فِي ‌الْفَتْرَةِ؛ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونَنِي بِالْبَعَرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ ‌فِي ‌الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا) (رواه أحمد، وابن حبان، وصححه الألباني)، وهذا الحديث يدل على أن بعضهم يُرحَم إذا استجاب يوم القيامة وبعضهم يعذَّب؛ لأنه أَبَى أن يمتثل أمر الرسول الذي أرسل إليه في عرصات القيامة فيسحب إلى النار -والعياذ بالله-.

وهذه المسألة حدثت بسببها أنواع من الاضطراب عند المعاصرين لجعلهم أهل أوروبا وأمريكا، والشرق والغرب، ممَّن لم تبلغهم الدعوة، وظنوا أن التفصيل في بلوغ رسالة الإسلام ومحاسنه ومعجزات النبوة كاملة، لا بد أن تصل إليهم حتى يكونوا معذَّبين، وليس الأمر كذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قاتلوا الأمم بمجرد أن يدعوهم إلى شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، ومَن سأل عن الحجة بُيِّنت له، وأما من أبى وأعرض وقلَّد سادته وكبراءه في الكفر والتكذيب بعد أن بلغته المسألتان العظيمتان: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فهو معذَّب بلا شك مات كافرًا، وهؤلاء هم "الطبقة السابعة عشرة" من مقلدي الكفار الذين ذكرهم ابن القيم في طبقات المكلفين في "طريق الهجرتين"، وفي "حادي الأرواح".

وقد قال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ‌بِالْأَخْسَرِينَ ‌أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105).

فالمُقَلِّدون في الكفر، المُعرِضون عن البحث عن الحجج بعد بلوغ "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" كفار معذبون مخلدون في النار، ولا تلتفت إلى سقطات بعض المعاصرين في ذلك مهما كانت منزلتهم وفضلهم؛ فإن المسألة لا نزاع فيها).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة