الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (3)

الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (3)
الاثنين ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٤٤ ص
30

 

الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (3)

كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فسنتكمل في هذا المقال كلامنا عن قاعدة: "الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز".

قال أبو الحسن الأشعري في كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة (ص 138، 139): (والقرآن العزيز ‌على ‌ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة، وإلا فهو ‌على ‌ظاهره)، وقال: (فإن قال قائل: إذا ذكر الله -عز وجل- الأيدي وأراد يدين، فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يدًا واحدة؟ قيل له: ذكر -تعالى- أيدي وأراد يدين؛ لأنهم أجمعوا على بطلان قول مَن قال: أيدي كثيرة، وقول مَن قال: يدًا واحدة، فقلنا يدان؛ لأن القرآن ‌على ‌ظاهره؛ إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر). وقال: (كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، ‌وَلَا ‌يَجُوزُ ‌أَنْ ‌يُعْدَلَ ‌بِهِ ‌عَنْ ‌ظَاهِرِ ‌الْيَدَيْنِ ‌إِلَى ‌مَا ‌ادَّعَاهُ ‌خُصُومُنَا ‌إِلَّا ‌بِحُجَّةٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا ظَاهَرُهُ الْخُصُوصُ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا لِمُدَّعِيهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ لَمْ يَجُزْ لَكُمْ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ أَنَّهُ مَجَازٌ أن يكون مجازا بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِثْبَاتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ نِعْمَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ النِّعْمَتَانِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: فَعَلْتُ بِيَدِيَّ وَهُوَ يَعْنِي النِّعْمَتَيْنِ).

وَفِي هَذِهِ النُّقُولِ تَصْرِيحُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ كَصِفَةِ الْيَدِ ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَأَنَّ الْمُدَّعِينَ أَنَّهَا مَجَازٌ هُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ وخَصْمُهُمْ كَمَا تَرَى، وهذا صريح بأن متأخري الأشاعرة ليسوا على مذهب أبي الحسن الأشعري، بل هم على مذهب ونهج خصومه الجهمية والمعتزلة في تأويلهم وانحرافهم بمعاني الصفات إلى غير ظاهرها المراد الذي فهمه السلف ولم يتكلفوا تأويله وصرفه عن ظاهره بل أمَرّوه كما جاء.

وقد صَرَّح الدكتور حسن الشافعي -وهو يعدُّ كبير الأشاعرة المعاصرين- في كتابه: "الآمدي وآراؤه الكلامية" بأن الجويني هو أول مَن أَوَّل صفة العلو؛ ليتابع بذلك المعتزلة، ويثبت الدكتور حسن بذلك أن متأخري الأشاعرة على نهج مخالف لنهج الصحابة والتابعين وتابعيهم، وفي الجملة على نهج مخالف للقرون الخمسة الأولى من الهجرة، بما فيهم الأشاعرة الأوائل، جميعهم يثبتون لله صفة العلو دون صرف للفظ الاستواء عن ظاهره، حتى جاء الجويني وتابع المعتزلة في تحريفهم للفظ عن ظاهره بتأويل لا يستقيم.

وقال أبو المظفر السّمعاني (ت 489 هـ) في (قواطع الأدلة في الأصول): (وقد كانت الصحابة يتعلقون في تفاصيل الشرع ‌بظواهر ‌الكتاب والسنة)، وفي هذا دلالة على أن آيات الصفات أولى بالحمل على ظاهرها؛ لأنها تحدثنا عن غيبٍ لا يمكننا إدراكه ولا نحيط به علمًا، واستأثر الله بكنهه، فنأخذ من الظاهر المعنى الكلي الذي يتأتى لنا التعبد بمقتضاه دون الخوض في الكيفيات، وهذا الظاهر لا يقتضي تشبيهًا بالمخلوقين، بل هو على ما يليق بكمال الله -سبحانه وتعالى-.

والظاهر هو الأصل الذي يفهم من التركيب، قال الطاهر بن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير» (1/ 42): (‌فَطَرَائِقُ ‌الْمُفَسِّرِينَ ‌لِلْقُرْآنِ ثَلَاثٌ: إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ لِلتَّرْكِيبِ مَعَ بَيَانِهِ وَإِيضَاحِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِمَّا اسْتِنْبَاطُ مَعَانٍ مِنْ وَرَاءِ الظَّاهِرِ تَقْتَضِيهَا دَلَالَةُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَقَامِ وَلَا يُجَافِيهَا الِاسْتِعْمَالُ وَلَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ، وَتِلْكَ هِيَ مُسْتَتْبَعَاتُ التَّرَاكِيبِ وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَبْحُوثِ فِيهَا فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ كَكَوْنِ التَّأْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَرَدُّدِهِ، وَكَفَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ مَعَ الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْلِبَ الْمَسَائِلَ وَيَبْسُطَهَا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْنَى، أَوْ لِأَنَّ زِيَادَةَ فَهْمِ الْمَعْنَى مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيِّ وَبَيْنَ بَعْضِ الْعُلُومِ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَقْصِدٍ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ لِزِيَادَةِ تَنْبِيهٍ إِلَيْهِ، أَوْ لِرَدِّ مَطَاعِنِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنَافِيهِ لَا عَلَى أَنَّهَا مِمَّا هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ بَلْ لِقَصْدِ التَّوَسُّعِ".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة