الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

تجديد أم عبث؟! (3)

تجديد أم عبث؟! (3)
الاثنين ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٤٥ ص
42

 

تجديد أم عبث؟! (3)

كتبه/ سامح بسيوني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمن العبث الحادث في هذه الأوقات: القول بعدم حجية أحاديث الأحاد في العقائد -ممن يسمون أنفسهم بالمتكلمين التنويرين- والذي يصب في خدمة ذات المنظومة الخادمة لفكرة تنحية السنة من التشريع كطريق لهدم الدين وتضييع عقائد المسلمين، ولكن بدرجة أخف وطأة وفجاجة؛ فهم يبررون لأنفسهم نبذ ما جاء في الكتاب والسُّنة بزعمهم أنَّ حديثَ الآحاد لا يُحْتَجُّ به في العقائد، فيُسقِطون السنَّة النبويَّة من حساباتهم في إثبات أمور العقيدة والتوحيد، فتتميع عقائد المسلمين طبقًا لمراد غيرهم ومكره؛ إذ إنَّ أكْثَرَ السُّنَّة النبوية آحاد، والمتواتِر منها بالنسبة إلى الآحاد قليل، وحُجَّتُهم التي يدعونها؛ أنَّ الأحاديثَ المُتَواتِرة تُفِيد القَطْع واليقين؛ فيُحتجُّ بها، وأحاديثَ الآحاد -على كثرتها- ظنيَّةٌ تفيد العلم الظنِّيَّ لا اليقينيَّ؛ فيُعمَل بها في الأحكام لا في العقائد؛ إذ إن الشرع نهى عنِ اتِّباع الظنِّ والأخْذِ به.

وقبل الرد على هذا العبث؛ فلا بد من بيان أن حديث الآحاد الذي يريد هؤلاء القوم عدم الاحتجاج به هو: (كلُّ حديث لم يَبلُغْ حدَّ التَّواتُر، حتَّى وإن كان مستفيضًا، حتَّى وإن كان صحيحًا مِمَّا اتَّفق عليه البخاريُّ ومسلمٌ، وتلقَّتْهُ الأُمَّةُ عنهما بالقَبول)، فحينئذٍ ستكون المحصّلة من هذا الطرح -والمرادة من هؤلاء القوم- هي نَبْذ أكثر السّنَّة النبويَّة، وقَصْر الاحتجاج في أغلب مسائل العقيدة والتوحيد على القرآن وَحْدَهُ، مع تقديم أقوالِ المُتَكلِّمين وآرائهم الشخصية على الآيات عند تعارِضُهما في الأذهان، مستخدمينَ التأويلَ لصرف المعاني عن ظاهرها لتُوافِق مذاهب المتكلمين وآراء هؤلاء الظلاميين.

والحقيقة التي يجب أن يدركها كل مسلم في الرد على هذا العبث: أنَّ أحاديثَ الآحادِ الصحيحةَ حُجَّةٌ بِنَفْسِها في العقائد والأحكام معًا، لا يُفَرَّقُ بينها وبين الأحاديث المتواترة، وعلى هذا جَرَى علماء الأمَّة جِيلًا بعد جِيل.

والتفريق بين الأحاديث المتواترة والآحاد في الاحتجاج في العقائد باطل من وجوه، منها:

1- هذا القول قول مُبتدَع مُحْدَث، لا أصل له في الشريعة، لم يعرفه السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ولم ينقل عن أحدٍ منهم، ولا خطر لهم على بال، وفي الحديث: («‌مَنْ ‌أَحْدَثَ ‌فِي ‌أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِيَّاكُمْ ‌وَمُحْدَثَاتِ ‌الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وإنما قال هذه المقالة جماعة من علماء الكلام، وأخذ بها مَن تأثَّر بهم من علماء الأصول من المتأخرين، وتلقَّاها عنهم بعض المُعاصرين بالتسليم دون مناقشة أو برهان، وما هكذا يجب أن يكون شأن العقيدة خاصة ممَّن يشترطون لثبوت مسائلها، ثبوتها بأدلة قطعية عندهم!

وأعجب من ذلك وأغرب: ادِّعاء اتّفاق الأصوليين على الأخْذ بذلك، وهي دعوى باطلة، وجُرْأة زائدة؛ فكيف يكون الاتّفاق على ذلك، وقد نصَّ على أنَّ خبر الآحاد يُفيد العلم كما يفيد العمل الإمامُ مالك، والشافعي، وأصحابُ أبي حنيفة، وداودُ بن علي، وابنُ حزم، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وغيرهم؟!

قال ابن خويز منداد في كتاب "أصول الفقه" وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يَرْوِهِ إلاَّ الواحد والاثنان: "ويقع بهذا الضرْبِ أيضًا العِلْم الضروري، نص على ذلك مالك"، وقال أحمد في حديث الرؤية: "نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها"، وقال القاضي أبو يَعْلَى: "خبر الواحد يُوجِب العلم إذا صحَّ سَنَدُه، ولم تختَلِفِ الرواية فيه، وتلقَّتْهُ الأُمَّة بالقَبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم، وإن لم تتلقَّهُ الأُمَّةُ بِالقبول"، قال: "والمذهب على ما حكيت لا غير".

وقال بذلك أبو إسحاق الشيرازي في كتبه في الأصول؛ كـ(التبصرة)، و(شرح اللمع)، وغيرهما، ولفظه في (الشرح): "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل به الكل أو البعض"، ولم يحكِ فيه نزاعًا بين أصحاب الشافعي، وحكى هذا القول القاضي عبد الوهاب من المالكيَّة عن جماعة من الفقهاء، وذكره أبو بكر الرازي في كتابه "أصول الفقه".

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة