الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (135) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (2)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (135) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (2)
الاثنين ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٤٧ ص
39

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (135) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (‌وَلَقَدْ ‌جَاءَتْ ‌رُسُلُنَا ‌إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76).

قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ): "حكى قولها في هذه الآية، كما حكى فعلها في الآية الأخرى، فإنها: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وَفِي الذارايات: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (الذاريات: 29)، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب، (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ: قالت الملائكة لها، لا تعجبي من أمر الله، فإنه أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: "كن" فيكون، فلا تعجبي من هذا، وإن كنتِ عجوزًا عقيمًا، وبعلُك شيخًا كبيرًا، فإن الله على ما يشاء قدير.

(رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي: هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجد في صفاته وذاته؛ ولهذا ثَبَت في الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

وقوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‌‌. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ): يخبر -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، أنه لما ذهب عنه الروع، وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط؛ أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الآية قال: لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له إنا مهلكو أهل هذه القرية. قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا. قال: ثلاثون؟ قالوا: لا. حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم -عليه السلام- عند ذلك: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) (العنكبوت: 32)، فسكت عنهم واطمأنت نفسه.

وقال قتادة وغيره قريبًا من هذا. زاد ابن إسحاق: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب، قالوا: نحن أعلم بمن فيها. الآية.

وقوله -سبحانه-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) مَدَح إبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدَّم تفسيرها في سورة براءة (قلتُ: وقد سبق بيان ذلك في معنى الحليم الأواه، إن إبراهيم لأواه حليم، وزاد فيها هنا: المنيب، وهو الرجاع إلى الله -عز وجل-).

وقوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي: إنه قد نفذ فيهم القضاء، وحقت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يُرد عن القوم المجرمين" (انتهى من تفسير ابن كثير).

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير الآيات: "المسألة الثانية في هذه الآية: مِن أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جِدَة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من كرم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خُلُق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في "البقرة"، وليست بواجبة عند أهل العلم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة. والجائزة: العطية. والصلة التي أصلها على الندب. وقال -صلى الله عليه وسلم-: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وإكرام الجار ليس بواجب إجماعًا، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ليلة الضيف حق، إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية.

(قلتُ: الظاهر وجوب الضيافة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَذِن لمَن لم يعطيهم مَن نزل بهم قراهم، أن يأخذوا منهم قراهم بالمعروف).

قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد (قلتُ: بل قد سبق الوجوب).

وذِكْر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا؛ فلدغ سيد ذلك الحي، الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقًّا للام النبي -صلى الله عليه وسلم- القوم الذين أبوا، ولبيَّن لهم ذلك (قلتُ: لا يُدرَى: هل كان هؤلاء القوم مسلمون، وكانوا حاضرين عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فهذا الجزء من المسألة واقعة عين).

الثالثة: اختلف العلماء فيمَن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر، فالفندق ينزل فيه المسافر.

واحتجوا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر. وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قاله أبو عمر بن عبد البر.

قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومِن الناس مَن قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات، ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان غريبًا فهي فريضة.

الرابعة: قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ مِن أين علم أنه قليل؟! بل قد نَقَل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل -صلى الله عليهم وسلم-، وعِجْل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي؟! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم، فاجتنبوه فقد علمتموه.

الخامسة: السُّنة إذا قُدِّم للضيف الطعام، أن يبادر المقدَّم إليه بالأكل فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون من ورائهم مكروه يقصدونه.

وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم نكرهم، وأوجس منهم خيفة، أي: أضمر. وقيل: أحس. والوجوس الدخول.

قال الشاعر:

جَـاءَ الْـبَـرِيدُ بِـقـِرْطَاسٍ يَـخُـبُّ بِهِ            ‌فَأَوْجَسَ ‌الْقَلْبُ ‌مِنْ ‌قِرْطَاسِهِ ‌جَزَعًا

خيفة: خوفًا، أي: فزعًا.

وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرًّا، فقالت الملائكة: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط.

السادسة: من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه: هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر؛ روي أن أعرابيًّا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إليَّ نظر مَن يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلتُ معك! قلتُ: وقد ذُكِر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبد الملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده، وهو يقول:

وللمـوت خيـر من زيارة باخـل               يُلَاحِظ أطراف الأكيل على عمد

السابعة: قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) يقول: أنكرهم، تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك، إذا وجدته على غير ما عهدته.

قال الشاعر:

وَأَنْـكـَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكـِرَتْ              مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا

فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك.

الثامنة: قوله -تعالى-: (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) ابتداء وخبر، أي: قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس.

وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "وامرأته قائمة وهو قاعد" (قلتُ: وهذه قراءة تفسيرية).

التاسعة: قوله -تعالى-: (فَضَحِكَتْ) قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة تحقيقًا للبشارة. وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه، وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم.

وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة، وإنما هو كناية. ويقال: قائمة لروع إبراهيم فضحكت لقولهم: (لَا تَخَفْ) سرورًا بالأمن. (قلتُ: وهذا من أقرب الأقوال).

وقال النحاس: فيه أقوال: أحسنها أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم، فلما قالوا: (لَا تَخَفْ)، وأخبروه أنهم رسل الله؛ فرح بذلك، فضحكت امرأتُه سرورًا بفرحه" (انتهى من تفسير القرطبي).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.  

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة