السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حكمة الله في تسليط أعدائه على أوليائه (موعظة الأسبوع)

حكمة الله في تسليط أعدائه على أوليائه (موعظة الأسبوع)
الأربعاء ٠١ نوفمبر ٢٠٢٣ - ٠٩:٠٠ ص
350

 

حكمة الله في تسليط أعدائه على أوليائه (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

مقدمة:

- فلا يزال إخواننا في فلسطين يتحمَّلون الاعتداء الوحشي الغاشم من اليهود وأعوانهم، بكلِّ ألوان الاعتداء من التهجير والتجويع، والهدم والقتل والإبادة... على مرأى ومسمع من الدنيا! وحسبنا الله ونعم الوكيل: قال الله -تعالى-: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 9)، وقال: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 40).

- الأحداث تقتضي أن نقف معها لأخذ العِبَر والدروس الكثيرة، واليوم نقف وقفة مهمة، عنوانها: (حكمة الله في تسليط أعدائه على أوليائه؟)، وهو سؤال يتردد في الأحداث بصيغ متعددة: (ألسنا مسلمين وهم كافرون؟! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! ألسنا مظلومين وهم ظالمون؟! فلماذا نُهزم ونُقتل ويُقتل أطفالنا؟ ولماذا تهدم بيوتنا؟ ولماذا نُطرد من ديارنا؟ وبالجملة: لماذا يتسلط علينا الكفار؟). والجواب من وجوه تأتي بعد.

(1) بيان حكمة الله في تسليط أعدائه على أوليائه:

تمهيد مهم جدًّا قبل أن نذكر بيان الحكمة:

- اعلم أن الله قادر على أن يسحق الكافرين، ولكن يسلطهم على أوليائه أحيانًا لحِكَم يريدها كما سيأتي: قال -تعالى-: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (محمد: 4).

- استحضر الآن وأنت تطالع وجوه حكمة الله في تسليط الكفار على المؤمنين أحيانًا، أحداث معركة أُحُد، ففيها وجه شبه بأحداث فلسطين، فقد بدأت بالنصر المؤزر للمؤمنين، ثم انقلب الحال لصالح الكفار المشركين.

فأما الجواب على السؤال: ما حكمة الله في تسليط أعدائه على أوليائه؟! فمن وجوه(1):

1- أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم، جرت بأن يُدالوا مرَّة، ويُدال عليهم أُخرى، لكن تكون لهم العاقبة (لا تمكين إلا بعد امتحان وابتلاء): قال -تعالى- لنبيه: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود: 49)، وقال -تعالى-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، وقال هرقل لأبي سفيان: "هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، يُدال علينا المرة، ونُدال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تُبتلى، ثم تكون لهم العاقبة" (متفق عليه).

وقال الله -تعالى- عن طبيعة الطريق إلى الجنة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).

2- أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب (الشدائد كاشفة): قال -تعالى-: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ) (آل عمران: 179)، وقال -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3)، وقال -تعالى- عن المنافقين عند الشدائد: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة: 52).

3- تعريف المؤمنين سوء عاقبة المعصية، وأن الذي يصيبهم إنما هو شؤم مخالفة أمر الله ورسوله، ليكونوا بعد ذلك أشد حذرًا ويقظة، وتحرزًا من أسباب الخذلان: قال -تعالى- عن أثر مخالفة أمر الرسول يوم أُحُد: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 152).

4- استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء (التوبة - الصبر - الدعاء - الثبات - الاحتساب - ...)، فهم عبيده حقًّا، وليسوا كمن يعبد الله على حرفٍ من السراء والنعمة والعافية: قال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11). وقال -تعالى- عن حال أوليائه عند الشدة: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 146- 147).

5- أنه لو نصرهم دائمًا وأظفرهم بعدوهم في كلِّ موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدًا، لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء: قال -تعالى-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى: 27)، وقال -عز وجل-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (التوبة: 25).

6- أنَّ الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدَّيقية إلا الشهادة، وهو -سبحانه- يحب أن يتخذ من عباده شهداء؛ تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو، قال -تعالى- بعد مقتل السبعين يوم أُحُد: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 140). وقال: (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104).

7- أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته، لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيَّض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ ‌مَنْزِلَةٌ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ‌ابْتَلَاهُ ‌اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال -تعالى- في ثمن الجنة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).

اللَّهُمَّ انْصُرِ الإِسْلامَ وأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلِ بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ والدِّينِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من كلام ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" حول معركة "أُحُد"، بتصرفٍ.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية