الأربعاء، ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠١ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (145) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (1)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (145) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (1)
الثلاثاء ١٩ ديسمبر ٢٠٢٣ - ٠٩:٢٦ ص
51

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (145) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (1)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قوله -تعالى-: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(يوسف: 6).

إن مِن أعظم نعم الله على عبده المؤمن اجتباءه واصطفاءه، واختياره للمنازل العالية والمراتب السامية، وأعظم الاجتباء: الاصطفاء للنبوة والرسالة، وأعظم من ذلك: اجتباؤه بالخلة، وقد خص الله بها رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأباه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله عنه: (‌وَاتَّخَذَ ‌اللَّهُ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌خَلِيلًا(النساء: 125)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فدل ذلك على أن الخلة أعظم المنازل، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن إبراهيم في حديث الشفاعة: (‌إِنَّمَا ‌كُنْتُ ‌خَلِيلًا ‌مِنْ ‌وَرَاءَ ‌وَرَاءَ(رواه مسلم)؛ للدلالة على علوِّ منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخلة فوق جميع الخلق.

وشهود الاجتباء والاصطفاء نعمة فوق النعمة، ومِنَّة فوق المنة، وبها يؤخذ قلب العبد إلى الله حبًّا وشوقًا، ورجاءً ورغبة، وخوفًا أن ينزع منه الاجتباء والاختيار والاصطفاء، فيتعلق القلب بالله وحده دون من سواه، وقد قص الله علينا في سورة يوسف هذا الحوار بين يعقوب ويوسف -صلى الله عليهما وسلم-، وهذا الحوار في القرآن من نعم الله علينا؛ لنتعلم كيف تكون التربية المهيِّئة للصلاح والنبوة، ولنا فيها نصيب الصلاح لمن أراد سلوك الأنبياء، وربك يخلق ما يشاء ويختار.

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات: "يقول -تعالى- مخبرًا عن قول يعقوب لولده يوسف -صلى الله عليهما وسلم-: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، كذلك (‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لنبوته، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ) وهو الخليل، (وَإِسْحَاقَ) ولده، وهو الذبيح في قولٍ، وليس بالرجيح -(قلتُ: دَلَّ القرآنُ على أن الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق؛ لأن الله -عز وجل- قال بعد ذكر قصة الذبح والفداء: (‌وَبَشَّرْنَاهُ ‌بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ(الصافات: 112)، فكان التبشير بإسحاق بعد أن بذل إبراهيم ولده بكره إسماعيل لله -عز وجل-، وكذا قال -سبحانه- في البشارة بإسحاق: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ‌وَمِنْ ‌وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ(هود: 71)، فيكون لإسحاق ولد هو يعقوب في حياة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ فدل ذلك على أنه لم يكن ليذبح صغيرًا؛ لأن البشارة كانت بولدٍ له، وهذا لا يحصل عند بلوغ السعي، فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-)-، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: هو أعلم حيث يجعل رسالاته" (انتهى من تفسير ابن كثير).

في الآية فوائد:

الفائدة الأولى: هذه الجلسة التربوية الإيمانية الرائعة التي أثرت في يوسف -صلى الله عليه وسلم- عمره كله، وظل أثرها عبر السنين رغم الفراق الطويل، قصها الله علينا ليعلمنا كيف يغرس الإيمان والحب لله في القلب لتكون القدوة والأسوة للآباء والمربين في توجيه الأبناء والتلاميذ، فيخبر الله عن قول يعقوب ليوسف -عليهم الصلاة والسلام-: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: كما اختارك وأراك سجود هذه الكواكب والشمس والقمر لك، فكذلك (‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لفضله.

وشهود نعمة الله وفضله أصل سعادة العبد؛ إذ هذا هو أصل الشكر، وإنما يعمل الشيطان ليجعل الخلق غير شاكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين، فإذا شكر العبد ربه قطع الطريق على الشيطان فلم يجد إلى قلبه سبيلًا، وشهود الاختصاص بالرحمة والتفضيل من أعظم ما يأخذ بقلب العبد إلى ربه -سبحانه- حبًّا وشوقًا، ورجاءً وعبودية، فالحب ينبت على حافة شهود المنن، ومعرفة الأسماء الحسنة والصفات العلا وهذا قد تحقق في كلمات يعقوب لابنه يوسف -صلى الله عليهما وسلم- وأعظم نعمة واجتباء يمنُّ الله بها على عبده هي نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، ثم الاجتباء بالقرب الخاص والتفضيل على كثير من عبادة المؤمنين، وأعلى ذلك: الاجتباء بالنبوة والرسالة.

وتأمل ما ذكر الله -سبحانه- لموسى -عليه السلام-: (‌وَأَنَا ‌اخْتَرْتُكَ(طه: 13)، وقوله: (‌قَالَ ‌قَدْ ‌أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(طه: 36-37) إلى قوله: (وَلِتُصْنَعَ ‌عَلَى ‌عَيْنِي(طه: 39)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي(طه: 41)؛ فلولا تثبيت الله لهذه القلوب الضعيفة لضعفت من شدة الفرح، والحب والشوق إلى الله حتى تذوب حبًّا وشوقًا.

وتأمل قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَكَانَ ‌فَضْلُ ‌اللَّهِ ‌عَلَيْكَ ‌عَظِيمًا(النساء: 113)، وقوله: (‌وَإِنَّكَ ‌لَعَلَى ‌خُلُقٍ ‌عَظِيمٍ(القلم: 4)، ماذا ينالنا نحن مِن إدراك قبس من النور الذي حلَّ في قلوب الأنبياء؟!

وتأمل قول الله -تعالى- لعبادة المؤمنين: (‌لَقَدْ ‌مَنَّ ‌اللَّهُ ‌عَلَى ‌الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(آل عمران: 164).

وتأمل قوله -تعالى-: (‌قُلْ ‌إِنَّ ‌الْفَضْلَ ‌بِيَدِ ‌اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(آل عمران: 73-74).

وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا(الحج: 78)، فحين تستشعر أن الله هو الذي سماك مسلمًا من قبل ولادتك، ومَنَّ عليك من قبل وجودك، وسماك مسلمًا في القرآن "أشرف الكتب المنزلة على أشرف الرسل -صلى الله عليه وسلم-"، يكاد القلب يذوب حبًّا وشوقًا، ورجاءً لمزيد الفضل والرحمة منه -سبحانه-.

والكون مليء بأدلة التفضيل بين الخلائق: (‌انْظُرْ ‌كَيْفَ ‌فَضَّلْنَا ‌بَعْضَهُمْ ‌عَلَى ‌بَعْضٍ(الإسراء: 21)، وتأمل هذا في الدنيا يقود إلى وجود تفضيل أعظم في الآخرة: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(الإسراء: 21)، وشهود التفضيل بالدين أعظم سبب للحب، مع معرفة صفات الجمال والجلال لله -سبحانه وتعالى-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة