السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (146) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (2)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (146) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (2)
الثلاثاء ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٣ - ٠٨:٠٥ ص
47

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (146) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم  (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قوله -تعالى-: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(يوسف: 6).

الفائدة الثانية:

التأمل في ذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد في قوله: (‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) نجد فيه التوجيه ولفت نظر القلب إلى هذه الخصوص في العلاقة؛ ربك أنت الذي يفعل بك كل جميل، ويمَنُّ عليك بكل نعمة، ويختصك أنت ويريدك أنت؛ فلتشهد أفعاله الجميلة بك، ولتحرص على أن تكون له وحده، وتشهد فضله وحده، لا تحقق هذا الشعور غير هذه الكلمة: (رَبُّكَ) في مثل هذا الموضع، وتأمل قول يوسف -صلى الله عليه وسلم- في نهاية القصة: (‌قَدْ ‌جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا(يوسف: 100)، وقوله: (إِنَّ رَبِّي ‌لَطِيفٌ ‌لِمَا يَشَاءُ(يوسف: 100)، وقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ(يوسف: 101).

 تجد هذا التعلق الخاص بالربوبية الذي يشهد به العبد الصالح المِنَّة الخاصة، والنعمة الخاصة، مثل ما تجده في قول صالح -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ‌ثُمَّ ‌تُوبُوا ‌إِلَيْهِ ‌إِنَّ ‌رَبِّي ‌قَرِيبٌ ‌مُجِيبٌ(هود: 61)، وقول شعيب -عليه السلام-: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ ‌رَبِّي ‌رَحِيمٌ وَدُودٌ(هود: 90).

فحين أمرهم بالاستغفار ذكر اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المخاطبين، وهم هنا لم يُخصوا بعد بالفضل والتقريب، وحين ذكر تعلقه هو، بما وَجَد أثره من صفات ربه الرحيم الودود؛ ذَكَر اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد: (إِنَّ ‌رَبِّي ‌رَحِيمٌ وَدُودٌ)؛ ولأنه وجد من رحمته الخاصة، وأثر حبه ووده -عز وجل- ما لم يجدوه هم.

وتأمل قول السحرة: (رَبِّ ‌مُوسَى ‌وَهَارُونَ(الأعراف: 122)؛ لتعرف قَدْر هذه الخصوصية بهذا الفضل؛ هذا الذي يأخذ القلب إلى الله -عز وجل-، ويكاد يذوب شوقًا وحبًّا لله، وتأمل قول داود وسليمان: (‌الْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌الَّذِي ‌فَضَّلَنَا ‌عَلَى ‌كَثِيرٍ ‌مِنْ ‌عِبَادِهِ ‌الْمُؤْمِنِينَ(النمل: 15)؛ هذا الذي يجب أن يُرَبَّى عليه الانسان، ويُنشَّأ عليه مِن شهود نعمته -سبحانه-، واختصاصه عبده بفضله ورحمته، فيحب ربَّه أعظم الحب، ويكون تعلقه به وحرصه على مرضاته مقدَّمًا على كلِّ ما سواه؛ اللهم ارزقنا حبك ومرضاتك، وحب مَن أحبك، والعمل الذي يبلغنا حبك.

وقد أكَّد يعقوب -عليه الصلاة والسلام- على شهود أثر الربوبية بذكر جميع الأمور منسوبة إلى فعله -عز وجل-؛ فلم يقل: ستكون يا يوسف عالمًا بتأويل الرؤى، وستنال المنازل العالية التي نالها آباؤك، وإنما كانت كل الأمور منسوبة إلى الله -عز وجل-، ومن أفعاله: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)، (وَيُعَلِّمُكَ)، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ).

وقد أثَّرت هذه الكلمات في يوسف -عليه الصلاة والسلام- أعظم الأثر، فظل مشاهدًا لفضل ربِّه -سبحانه- وفعله الجميل به في كلِّ مراحل حياته، فقال لصاحبيه في السجن: (ذَلِكُمَا مِمَّا ‌عَلَّمَنِي ‌رَبِّي(يوسف: 37)، ويقول لهما: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ‌عَلَيْنَا ‌وَعَلَى النَّاسِ(يوسف: 38)، ويقول لأبيه في خاتمة القصة: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ‌قَدْ ‌جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا(يوسف: 100)؛ لم يقل: قد تحققت، وكذلك يقول: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) فنسب الإحسان إلى ربِّه، ولم يقل: خرجتُ من السجن، بل الله أخرجه.

وقال: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ(يوسف: 100)، ولم يقل: جئتم. وقال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فنسب الشر إلى الشيطان وفعله؛ فهذا هو الأدب، فالخير كله في يدي الرب -سبحانه-، والشر ليس إليه، وقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) فذكر لطفه ومشيئته؛ كل هذا أثر التربية الإيمانية في الصغر، فالله الذي يفعل ويتفضَّل، ويمَنُّ ويحسن، ويلطف ويشاء، له الحمد -عز وجل-. وقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ(يوسف: 101)؛ كل هذا فضل الله ومنته.

وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ)، نجد أن شهود النعمة منه -سبحانه- يأخذ قلب العبد؛ فكيف بإتمامها؟!

إن ابتداء النعمة فضل عظيم، وأعظم منه إتمامها: (‌الْيَوْمَ ‌أَكْمَلْتُ ‌لَكُمْ ‌دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا(المائدة: 3)، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ‌فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(الفتح: 1-2).

وإذا شهد مع ذلك أنه إتمام النعمة على آله كلهم، وأنه سبق إتمامها على أبويه من قبل: إبراهيم وإسحاق، فهو إذًا مغمور بنعم الله التامة عليه وعلى آبائه؛ فكان هذا أعظم في شهود الرحمة والفضل، واستدعاء المحبة والشكر.

فاللهم أتمم نعمتك علينا، واجعلنا شاكرين لها مثنين بها عليك.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة