الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

مضى الشهر... ويمضي العمر!

مضى الشهر... ويمضي العمر!
السبت ٢٨ أكتوبر ٢٠٠٦ - ١٥:٥٩ م
11

مضى الشهر... ويمضي العمر!

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد مضى الشهر الحبيب "شهر رمضان" كضيف عزيز، سريع الارتحال، لم يوشك أن يبدأ حتى انتهى، فما أسرع مرور الأوقات! وما أوضح تقارب الزمان الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من أشراط الساعة: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ الْخُوصَةُ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وكأني بالعمر كله كذلك قد انقضى، ويرحل الإنسان عن ظهر الأرض إلى بطنها وتنتهي مرحلة: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) (طـه:55)، وتبدأ مرحلة: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ)؛ انتظارًا لمرحلة: (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طـه:55).

والعاقل يتعظ مِن مرور الوقت عليه: فيَشعر ويستحضر أنه يُحمَل إلى المصير المحتوم، والأجل المكتوب؛ ليأخذ من حياته لموته، ومن صحته لسقمه، ومن فراغه لشغله، ومن شبابه لهرمه، ومن غناه لفقره.

ومع كثرة الفتن وكثرة المشاغل تغفل القلوب، وينسى الإنسان حياته الحقيقية بعد موته وفي قيامته، ونحتاج دائمًا إلى التذكر والتذكير؛ فماذا يربح الإنسان لو تذكر العالَم ونسي نفسه؟!

ماذا يربح لو ربح كل الدنيا وخسر نفسه؟!

إن نمط الحياة المعاصر سريع الإيقاع جدًّا، لا يدع فرصة لأغلب الناس في التفكير، ورغم سرعة الحركة حتى ينجز الإنسان في ساعتين مثلاً كسفر لبيت الله الحرام ما كان ينجزه المسلمون في الماضي في شهر، إلا أن المشاغل أكثر، وقلة البركة في الوقت والعمل أظهر، وكثرة الشغل والمنازعات والخصومات في الحياة أكبر، وتضيع الأوقات في اللهو والباطل والمشاكل أعظم.

فهل لنا أن ننتبه إلى حاجات قلوبنا وضرورات نفوسنا في إصلاحها، وتزكيتها، وانطلاقها من أسر الشهوات والعادات والتقاليد، ومِن سجن الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى، ومن حبس الظلم والجهل؟!

هل لنا أن يعين بعضنا بعضًا على قضاء ما تبقى مِن العمر فيما يقرِّب إلى الله دون ما يبعد؟ وفيما يذكر بلقائه دون ما ينسي؟ وفيما يؤلف بيْن القلوب دون ما يفرِّق؟!

والله إن مشاكلنا الداخلية كثيرة جدًّا، وهي التي تقلل نصيبنا مِن النور، وبالتالي يقل أثرنا فيمن حولنا؛ فإن أثر الدعوة والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو بقدر النور الذي في قلب الداعي والعالم، والمحتسب والخطيب، لا بقدر كثرة كلامه وتدريسه وتأليفه أو علو صوته، فهل كان الصحابة عندهم من وسائل الاتصال والتوصيل والإعلام ما لدينا؟! لا والله حتى مكبر الصوت لم يكن عندهم، ولم يكن عندهم كتيبات ولا شرائط ولا قنوات فضائية، ومع ذلك وصلت دعوتهم للقلوب، وامتد نورهم عبر الزمان والمكان.

أما نور الأنبياء -عليهم السلام- فمخترق للحجب، متجاوز للحدود، يدخل القلوب ويستقر فيها بفضل الله -عز وجل- على مَن يشاء (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(الأحزاب:45-46)، وحتى مَن لم يستجب لهم كثرة من الناس فنورهم واصل إلينا -بفضل الله-، فإبراهيم -عليه السلام- إمام الأنبياء آمن له لوط وسارة ثم أولاده: إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ومع ذلك فنوره -عليه السلام- كالشمس، بل أجلى! فهل نكون على الطريق، ويكون لنا نصيب من هذا النور؟

إن دعوتنا بحاجة إلى مزيدٍ مِن الصدق والإخلاص، والذكر والقرب أكثر مِن حاجتها إلى وسائل دعوية جديدة يتصور البعض أنها تتوقف على تحصيلها.

ووالله إن الأوقات التي تُقضَى في المنازعات والملهيات -ما أكثرها على شبكة الانترنت خصوصًا- لو استغللناها في الطاعة والعبادة والدعوة، والتناصح الصادق الحنون المشفق على إخواننا وعلى الخلق؛ لوصلت الرحمة إلينا وإليهم أسرع مما نتخيل (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

تقبل الله منا ومنكم، وثبت قلوبنا على دينه، وصرَّفها على طاعته. وكل عام وأنتم بخير.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة