الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

نشر "أولاد حارتنا".. الجميع خاسر

نشر "أولاد حارتنا".. الجميع خاسر
الثلاثاء ٢٣ يناير ٢٠٠٧ - ١٦:٢٢ م
11

نشر "أولاد حارتنا".. الجميع خاسر

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أثار مرض "نجيب محفوظ" الذي سبق موته اهتمامًا كبيرًا به، وتم طرح الكثير من القضايا المتعلقة بمسيرة حياته، ومنها راوية "أولاد حارتنا"، وقد انتهى "نجيب محفوظ" بناءً على رغبته في استرضاء جميع الخلق إلى إعطاء دار الشروق الإذن بالطباعة بشرط الحصول على إذن الأزهر، وأن يكتب أحد الإسلاميين مقدمة لها.

العالمانيون يثورون على أديبهم:

وقد ثارت ثائرة العالمانيين على "نجيب محفوظ" آنذاك فكتب "حلمي سالم" في الحياة: "وعلى ذلك، فإن التيار الغالب من المثقفين المصريين يناشد "محفوظ، ودار الشروق" أن ينشرا الرواية من دون إذن من أحد، ومن دون تزكية من كاتب إسلامي مستنير أو مظلم. هذه رواية غير مصادرة -لأن تقرير الأزهر السابق لم يتخذ قراراً بمصادرتها فهو لا يملك ذلك-، وقد أذن الشعب بنشرها لا الأزهر، وقد زكتها الحركة الثقافية المصرية والعربية قبل سنوات، فهي ليست في حاجة إلى تزكية كاتب مهما كان شأنه". ثم ختم كلامه قائلاً: "يا كبيرنا محفوظ: لا تُعِدْ -بيديك- الأغلال إلى أقدامنا".

مقدمة د. أبو المجد صدمت العالمانيين:

وبعد وفاة "نجيب محفوظ" عهدت دار الشروق إلى الدكتور أحمد كمال أبو المجد بكتابة المقدمة؛ مما هدَّأ من ثورة العلمانيين قليلاً، و لكنهم سرعان ما أصيبوا بصدمة حينما وجدوا أن مقدمة د. أبو المجد مصادمة لما يريدون، فقد نص على قضيتين محوريتين: إحداهما سعة الأفق في قراءة الأدب الرمزي، و الثانية: احترام حرية الرأي، ما لم تتصادم مع ثوابت المجتمع.

وإليك نص كلامه:

"إذ الأمر -في نهايته- يدور حول قضيتين لم يتحول فكري، ولم يتغير في شأنهما: القضية الأولى: أن من أصول النقد الأدبي التمييز الواجب بين الكتاب الذي يعرض فيه الكاتب فكرته، ويحدد مواقفه، ملتزماً -في ذلك- بالحقائق التاريخية، والوقائع الثابتة، دون افتئات عليها، ودون مداراة لما يراه في شأنها... وبين الرواية التي قد يلجأ صاحبها إلى الرمز والإشارة، وقد يدخل فيها الخيال إلى جانب الحقيقة العلمية، ولا بأس عليه في شيء من ذلك، فقد كانت الرواية -قديماً وحديثاً- صيغة من صيغ التعبير الأدبي، تختلف عن الكتاب، والالتزام الصارم الذي يفرضه على مؤلفه.

وفي إطار "أولاد حارتنا" فإنني فهمت شخصية "عرفة" بأنها رمز للعلم المجرد، وليست رمزًا لعالم بعينه، كما فهمت شخصية "الجبلاوي" على أنها تعبير رمزي عن "الدين"، وليست بحال من الأحوال تشخيصاً رمزيًا للخالق -سبحانه-، وهو أمر يتنزه عنه الأستاذ "نجيب محفوظ"، ولا يقتضيه أي اعتبار أدبي، فضلاً عن أن يستسيغه أو يقبله.

القضية الثانية: حرية التعبير والموقف منها، ذلك انه مع التسليم بأن الحريات جميعها إنما تمارس في جماعة منظمة، ولذلك لا يتأبى منها على التنظيم والتعبير إلا حرية واحدة، هي حرية "الفكر والاعتقاد" بحسبانهما أمرًا داخليًا يسأل عنه صاحبه أمام خالقه، دون تدخل من أحد، حاكماً كان ذلك الأحد أو محكومًا.

أما حين يتحول الفكر إلى تعبير يذيعه صاحبه وينشره في الجماعة، فإن المجتمع يسترد حقه في تنظيم ذلك التعبير دون أن يصل ذلك التنظيم إلى حد إهدار أصل الحق، ومصادرة جوهر الحرية، ذلك أن الهدف من إجازة هذا التنظيم إنما هو حماية حقوق وحريات أخرى فردية أو جماعية، قد يمسها ويعتدي عليها إطلاق حرية الفرد في التعبير، وتمنعها على التنظيم والتقييد، ويبقى مع ذلك صحيحاً أن الأصل هو الحرية، وأن التقييد استثناء تمليه الضرورة، والضرورة إنما تقدر بقدرها، ومن شأن الاستثناء ألا يقاس عليه أو يتوسع فيه" انتهى.

ثم أشار الدكتور أبو المجد إلى أنه في عام 1994 قام بزيارة لـ"نجيب محفوظ" بعد محاولة اغتياله، و تم بينهما حوار حول المقصود من الرواية، وأنه أذن له آنذاك في نشر ما دار بينهما، فنشره في مقال في الأهرام بعنوان: "الشهادة"!

وقد ضمنها الدكتور أبو المجد مقدمته الجديدة للرواية، وجاء فيها على لسان نجيب محفوظ:

"وأحب أن أقول: إنه حتى رواية "أولاد حارتنا" التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية، ولقد كان المغزى الكبير الذي توجت به أحداثها، أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في "الجبلاوي"، وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" أن يديروا حياتهم على أرضهم -التي هي حارتنا-، اكتشفوا أن العلم بغير الدين تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم، وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن الجبلاوي".

وأضاف: أن مشكلة "أولاد حارتنا" منذ البداية أنني كتبتها "رواية"، وقرأها بعض الناس "كتابًا"، والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة، وفيه الرمز، وفيه الواقع، وفيه الخيال.. ولا بأس بهذا أبدًا.. ولا يجوز أن تحاكم "الرواية" إلى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها؛ لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا أصلاً، وهو يعبر عن رأيه في رواية. وفي ثقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة.

ويكفي أن نذكر منها كتاب "كليلة ودمنة"، فهو مثلاً يتحدث عن الحاكم، ويطلق عليه وصف "الأسد"، ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة، وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان، منتهيًا بالقارئ في آخر المطاف إلى العبرة أو الحكمة التي يجريها على ألسنة الطير والحيوان، وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتب صاحب رأي.. أيًا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته" انتهى.

هذا مع التحفظ على هذا التأويل وهذا الادعاء اللذين تكذبهما الرواية تكذيبًا بينًا، لا يشك من قرأها أنه يقصد بالجبلاوي "الذات الإلهية"، وبأدهم آدم، وبجبل موسى، وبرفاعة عيسى، وبقاسم محمد -صلى الله عليه وسلم-، مع كم الاستهزاء بكل هؤلاء وبدعوتهم!

خسارة العالمانيين:

لقد خسر العلمانيون بذلك خسارة فادحة تتمثل في تقرير أن حرية الرأي مقيدة، وهم يريدونها مطلقة، وتتمثل في ما يرونه خضوعًا من أديبهم العالمي للقوى الإسلامية -الرجعية على حد وصفهم- إلى الحد الذي جعل بعضهم يشبهه بالمذنب الذي يجلس على كرسي الاعتراف أمام القس -ولهم العذر؛ فحدود ثقافتهم لا تتجاوز الغرب دينه وعالمانيته-.

وتباكى بعضهم من أن الإبداع لن يمر لاحقًا إلا إذا حصل على تزكية إخوانية! ولا ندري: هل يعتبرون د. أبو المجد إخوانيًا، أم أنها التهم المعلبة؟!

وخسر العالمانيون كذلك الرواية برمتها؛ لأنهم لا يريدون نشر الرواية لقيمتها الأدبية كما يزعمون، وإلا لفرحوا بنشرها، ولو في مجلة الأزهر، ولكن القوم يريدونها رواية "لا دينية" قلبًا وقالبًا؛ ولذلك مازالوا ينتظرون اليوم الذي يمكن أن يقرأ فيها القارئ الرواية دون فرض فهم مسبق لها، مع أن الدكتور "أبو المجد" ذكر أن هذا الفهم الذي ذكره هو نص مقصد المؤلف، ولكنهم يعرفون أن أي قارئ للرواية دون ديباجة سوف يصل إلى النتيجة اللا دينية التي يريدون.

وهذه النقطة الأخيرة هي عين ما نخاف منه، وهو أن نشر الرواية بكل ما فيها من تهكم بالدين وبالرسل، فلا يؤمن على قارئها إلا أن يلتفت إلى مقدمة د.أبو المجد أو غيره، فضلاً أن العالمانيين سوف يستمرون في محاولة نشرها بغير هذه المقدمة.

وأين دور الأزهر؟!

والقضية الأخطر أن "دار الشروق" قد استغنت بمقدمة د. أبو المجد عن تصريح الأزهر، وهذا فيه ازدراء للأزهر، ومحاولة التأكيد على أن دوره مجرد استشاري للأجهزة الرقابية على حد تعبير صاحب دار الشروق الذي أخل بالعقد الشفهي الذي كان بينه وبين "نجيب محفوظ".

وينبغي على الأزهر إذا كان لا يملك قانونًا إلا أن يبلغ الجهات الرقابية؛ فليفعل إبقاءً على دوره في حماية البقية الباقية من عقائد الناس.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية