الثلاثاء، ٢٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٧ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

عقيدة السلف في الصفات (شرح المنة 6)

عقيدة السلف في الصفات (شرح المنة 6)
الأربعاء ٢٨ مارس ٢٠٠٧ - ١٤:٢٢ م
13

عقيدة السلف في الصفات (شرح المنة 6(

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

أكثر الذين وقع منهم في التاريخ الإسلامي ترويج لعقيدة الجهمية بين الناس على أنها عقيدة أهل السنة، هم أئمةٌ أشاعرة لهم منزلة كبيرة في الفقه لكن علمهم بعقيدة السلف والأحاديث قليل، فقـدَّموا علم الكلام والتأويلات المنحرفة التي فيه إلى الناس على أنها منهج أهل السنة ، لأن أبا الحسن الأشعري هو الذي قاوم المعتزلة ورد عليهم، لكن تأثر كثيرٌ جداً من تلامذته ومن انتسب إليه بعقيدة هؤلاء المعتزلة، ولم يَسْلَمُوا من التخلص منها بالكلية، وهؤلاء الأئمة لهم كتب جيدة في الفقه والأصول ونحو ذلك، ولهم كلمة مسموعة، وهم مشهورون كعلماءَ في المذاهب التي ينتسبون إليها، مذاهب الأئمة الأربعة، لكنهم فتحوا باباً خطيراً في التأويل، وصار الناس بسببهم يقولون عن هذه العقيدة -عقيدة تأويل الأسماء والصفات- إنها عقيدة أهل السنة ، معتقدين أن الأشاعرة هم أهل السنة، وليسوا كذلك، لأن الأشاعرة فرقة فيها انحراف بلا شك، وإن كانوا من أهل القبلة، فليسوا كفاراً، ولكنْ فيهم انحراف في فهم الاعتقاد، خاصةً في قضية الأسماء والصفات كما سبق بيانه.

لذلك قضية تأويل الأسماء والصفات أصبحت علامة مميزة تميز أهل السنة -على طريقة السلف- عن أهل البدع الذين ينتسب بعضهم إلى السنة وليسوا منها، وهم من يُعْرَفُون بالخَلَف، وهم كما قلنا لهم منزلة كبيرة في الفقه والأصول لكنهم أدخلوا -لعدم معرفتهم بطريقة السلف وضعف علمهم بالحديث- طريقة أهل البدع في العقيدة .

و قال بعض المتأخرين: «إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم»، كأنه يقول إن المسلمين لا يستطيعون الرد على الكفار إلا بانتهاج طريقة الخلف، وهي التأويل، وطريقة السلف أسلم حتى لا نخوض في علم الكلام.

ولا شك أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، والعبارة السابقة التي قالوها غير صحيحة ولا تليق، إذ لا يليق أن نقول إن السلف -رضوان الله عليهم- أقل علماً من الخلف، فهذا الكلام باطل قطعاً، بل أعلم الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم- هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم التابعون، ثم أتباع التابعين، وهم أفضل في العلم وفي العمل وفي السلوك، ولذلك فقولنا: «السلفية منهج» معناها: أن نلتزم بطريقة السلف في كل هذا: العلم والعمل والسلوك. ومَنِ السلف؟ هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). ونحن نجزم أنهم لم يستعملوا التأويل، ولم يقل أحد منهم إن استوى بمعنى استولى، ولا أن اليد بمعنى القدرة، ولا أنه لا يجوز أن نقول: إن الله ينزل، وأن الذي ينزل هو أمر ربنا أو ملك من ملائكته إذا بقي ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، ولا أنه لا يجوز أن نقول إن الله يجئ يوم القيامة، لم يقولوا بذلك أبداً، بل طريقة السلف: أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه، والسلف قد أجمعوا على ذلك في العقيدة، ولم ينقل عن أحد منهم التأويل، فكيف يقال بعد ذلك: إن طريقة الخلف أعلم؟! هذا لا يمكن، بل طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم لأنهم أعلم الأمة.

ويمتنع أن يكون الصحابة -رضي الله عنهم- قد جهلوا أموراً علمها من بعدهم، إلا أموراً ليست من الدين، فهم الذين نقلوا لنا الدين عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نجزم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يَقل بهذه التـأويلات والتحريفـات التي قـال بها الخلق، وفسروا بها النصوص، فالرسـول -صلى الله عليه وسلم- لم يفسِّر اليد بالقـدرة ولا بالنعمة، ولا فسَّر الاستواء بالاستيلاء، ولا أنكر لفظ « فوق » بل هو -صلى الله عليه وسلم- الذي قال ذلك، ولا أنكر أن الله -عز وجل- في السماء، كما يزعمون أن من يقول: « إن الله في السماء » فهو كافر ، فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- سأل الجارية فقال لها: أَيْنَ اللهُ ؟، قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ، قَالَ : مَنْ أَنَا ؟، قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)، وشهد لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان، والخلف المتأخرون يقولون إن الذي يقول إن الله في السماء فهو كافر.

فإذا سألتهم: ولماذا يصير كافراً من يقول : إن الله في السماء؟!! يقولون : «لأن هذا معناه أن السماء تحيط بالله -سبحانه وتعالى- وتحويه» ، وهذا كلام عجيب، فهل قولنا «في السماء» معناه أنها تحويه -سبحانه وتعالى-؟!! فإن السلف لم يفهموها هكذا، بل في السماء يعني في العلو، والله -عز وجل- له صفة العلو، كما يقولون: فلانٌ في العِزِّ والغِنَى عَلَى أعْلى المراتب ، فهل الغِنَى يحيط بهذا الغَنِيّ؟! جهل عظيم أن نفهم الكلام هكذا، بل معناه أن صفته أنه عزيزٌ وغَنِيّ.

فمعنى أن الله -عز وجل- في السماء يعني في العلو، يعني أنه -سبحانه وتعالى- العَلِيّ، وليس أن السماء المخلوقة تحيط بالله -سبحانه وتعالى-، فكما قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون)(الزمر : 67)، فمَنْ ـ بعد ذلك ـ يمكن أن يظن أن السماء تحيط بالله -عز وجل- أو تُقِلُّه « تحمله » ، أو تظله « فوقه » ، بل هو -عز وجل- فوق العرش ، وفوق السماء المخلوقة ، هو في السماء يعني في العلو، فالسماء هنا مصدر، أو أنها السماء المخلوقة لكن الرب -سبحانه- فوقها ، فتكون « في » في قوله -تعالى-: (فِي السَّمَاءِ)(الملك : 16) ، بمعنى « على أو فوق » ، كما قال -سبحانه وتعالى-: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)(التوبة : 2) ، فهل الأمر كان أن يسيروا داخل الأرض ، بل في الأرض : أي فوق الأرض ، وقال -تعالى-: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)( طه : 71 ) ، فهل صلبهم داخل النخل ؟ بل على جذوع النخل .

الغرض المقصود أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقل بهذه التأويلات ولم يقل بها الصحابة ولا التابعون، ولا تابعو التابعين، وإنما ظهر ذلك فيما بعد، في أهل البدع والضلال.

لذلك نقول: إن طريقة السلف هي الأعلم والأحكم، وعند التأمل نجد هذه الشبهات العقلية عند أهل البدع شبهات باطلة، نتيجة جهلهم العظيم بالأحاديث النبوية الصحيحة، وجهلهم بتفسيرات السلف -رضي الله عنهم- وجهلهم باللغة العربية ، فعندما يقولون : « استوى بمعنى استولى » هل هذا يوافق اللغة العربية؟! لا ، فهذا الكلام باطل لغةً، لا يُستَعمل الفعل استوى بمعنى استولى، كما أن الفعل استولى يقتضي وجود منازعة، فقولهم في : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه : 5) بمعنى استولى، معناه أنه كان هناك أحد ينازع الله -سبحانه وتعالى-، ولم يكن العرش في ملك الله ، ثم استولى الرحمن عليه ، خاصةً أنه -عز وجل- قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(الأعراف : 54)، ومعروف أن العرش مخلوق قبل خلق السموات ، فهل كان أحد يملكه قبل خلق السموات والأرض ثم استولى الله -عز وجل- عليه ؟!! نعوذ بالله -تعالى- من القول بذلك .

إذاً فماذا نقول في قوله -تعالى-: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)؟ نقول : إن الاستواء صفة فعل ، فبعد خلق السموات والأرض استوى الرب -عز وجل- على العرش ، هذا لأن العرش عظيم وكريم ، فكرَّمَه الله -تعالى- بأن خصه بالاستواء عليه ، وهو معنى الارتفاع والصعود والعلو ، ولذلك قال مجاهد : « علا على العرش » ، ولم يزل -سبحانه وتعالى- هو العلي العظيم -عز وجل- ولكن خصَّ العرش بفعل هو فعل الاستواء ، كما يليق بجلاله -عز وجل- ، والاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ .

 

التأويل

عندما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عبارته : « نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه ، ووصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، من غير تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل » ، لماذا لم يقل : « من غير تأويل » ، بدلاً من قوله : « من غير تحريف » ؟! ولماذا اختار لفظ التحريف ؟!

لأن هذا اللفظ ـ التحريف ـ هو الذي ورد ذمه في القرآن كما في قوله-تعالى-: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(المائدة : 13) وهذا فعل أهل الكتاب ، وهو أليَق ، بخلاف التأويل أو الذي سموه تأويلاً ، لأنه يُستعمل لغةً وشرعاً بمعنى التفسير .

فالتفسير يسمى أحياناً التأويل ، كما يقال : « القول في تأويل قوله تعالى كذا » ، وفي بعض الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابن عباس -رضي الله عنهما- : (اللهمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)، فالتأويل في هذا الحديث هو التفسير ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو لابن عباس أن يعلمه الله تفسير القرآن .

فالخلف سموا ما فعلوه تأويلاً ، لكي يقتربوا من الألفاظ الشرعية ، لكن ما فعلوه ليس بتأويل شرعي ، بل هو تأويل مذموم ، ولذلك أسماه شيخ الإسلام « تحريفاً ».

والتأويل أيضاً له معنى آخر مذكور في قوله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ)(آل عمران : 7)، وفي قوله -تعالى-: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) قراءتان :

القراءة الأولى المشهورة : هي الوقف اللازم على لفظ الجلالة : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ)، ثم نبدأ (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).

« التأويل » هنا لا يصح أن يكون بمعنى التفسير ، لأن مفهوم ذلك حينئذ أن الراسخين في العلم لا يعلمون التفسير ، فهل هناك آيات لا يعلم تفسيرها أحد ؟ الجواب : لا ، لأن الله -تعالى- قال : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ)(ص : 29).

فنحن مأمورون بتدبر جميع آيات القرآن ، ولذلك نقول : إنه ليست هناك آيات بلا تفسير ، أو لا يُعْرَف تفسيرها ، بل كل القرآن يمكن أن يعلمه الناس ، ولذلك حتى لو توقف بعض الصحابة أو غيرهم عن التفسير في بعض الآيات ـ كما هو منقول عن الخلفاء الأربعة ، وإن كانت الأسانيد غير ثابتة ـ كما ورد عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: (الم) ونحو ذلك يقول : « الله أعلم بتفسيره » ، ولم يتكلم فيه ، فنقول : نعم ، من الممكن أن يتوقف واحدٌ ويقول : أنا لا أعلم تفسيرها ، لكن غيره يعلم ، ولا يلزم من كونه أعلم من غيره مطلقاً أنه يعلم كل شيء ، كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وهو أعلم الأمة بلا شك : « أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لا أَعْلَمُ »، لكن ابن عباس -رضي الله عنهما- عندما تكلم عن هذه الحروف، قال في قوله -تعالى-: (الم): « أَنَا اللهُ أَعْلَمُ » ، يعني أن كل حرف منها يدل على اسم من أسماء الله أو فعل من أفعاله أو صفة من صفاته ومثل (الر) يقول: « أنا الله أرى »، وهذا موجود في لغة العرب أنهم يكتفون بحرف يُغني عن الكلمة ، كقول الشاعر :

قلنا لها قفي قالت لنا قاف

 

لا تحسبي أنَّا نسينا الإيجاف

 

يعني بقوله : « قالت : قاف » أنها قالت : « قد وقفتُ » ، فدلت بإظهار القاف من « وقفتُ » على مرادها من تمام الكلمة التي هي « وقفتُ » ، وهذا أقرب الأقوال ، والله أعلى وأعلم .

الغرض المقصود أن قراءة (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ) (آل عمران : 7) بالوقف اللازم على لفظ الجلالة ، لا يصح حملها على التفسير ، بل نقول : إن التأويل هنا له معنى آخر ، وهو ما يؤول إليه الكلام في حاله الثاني ، أي عاقبته وحقيقته التي ينتهي إليها ، فالكلام قد يكون خبراً ، أو يكون أمراً ، أو نهياً فالخبر كالإخبار بقيام الساعة ، وأهوالها والصُور وتكوير الشمس ونحو ذلك من أهوال القيامة ، كما قال الله -تعالى-: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (الأعراف : 53).

ومعنى التأويل في الخبر وقوع المُخْبَر به ، فعندما يحدث المُخْبَر به ويقع يقال : هذا تأويل الكلام السابق ، كما قال يوسف -عليه السلام- لأبيه عندما سجد له إخوته : (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (يوسف : 100)، هذه الرؤيا كانت متضمنة سجود إخوته ، مع أنه رأى الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر ، لكن كان معناها أن إخوته سيسجدون له والشمس والقمر أبوه وأمه ، لذلك قال له أبوه : (يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) (يوسف : 5)، حتى لا يفهموا أنهم هم الأحد عشر كوكباً ، وأنهم سيخضعون لأخيهم فيحملهم على أن يكيدوا له كيداً ، فنهاه أن يخبرهم بذلك ، فلما كانت الرؤيا متضمنة لهذا الخبر ، قال يوسف عند حدوث المخبر به ووقوعه : (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)(يوسف : 100)، وقال الله -تعالى- : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)، أي يوم يأتي تأويل القرآن : (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ)، وهم الكفار (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، أي يوم يقع ما أخبر الله -تعالى- به في القرآن .

فعلى هذا المعنى يصح أن نقول في قوله -تعالى-:(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ) (آل عمران : 7)، أي لا يعلم وقت قيام الساعة إلا الله ، ولا وقت وقوع الغيبيات إلا الله ، ولا يعلم كيفيتها إلا الله -عز وجل-.

ونذكر مثالاً آخر في الأمور الخبرية أيضاً : فنقول نحن أُخْبِرنا بالأمور الغيبية ولم نرها ، فأُخْبِرنا أن في الجنة فاكهةً ، وفي الجنة لحماً ، وفي الجنة ماءً ، وفي الجنة عسلاً ، وهذه كلها أخبار ، وتأويل هذه الأخبار مِنْ حيث وقت وقوعها وكيفيتها ومعرفة معانيها التفصيلية الدقيقة ، بحيث يُعْلَمُ كل شيء عنها ، هذا بالتأكيد مما ادخره الله -عز وجل- لأهل الإيمان ، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَقُولُ اللهُ -عز وجل- : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ).

وكما قلنا قبل ذلك «الاستواء معلوم والكيف مجهول»، فهذا معنى من معاني التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، وهو هذه الكيفية المجهولة ، كيفية الأمور الغيبية الخبرية ومن ضمنها أسماء الله وصفاته ، مثل كيفية سمع الله ، وكيفية بصر الله -عز وجل- ، وكيفية علمه -عز وجل- ، وكيف تقوم الصفات بذاته ، فهذه الأمور الغيبية الخبرية لا يعلم تأويلها إلا الله ، بمعنى أن هذه الأمور الخبرية لا يعلم كيفياتها التفصيلية إلا اللهُ -عز وجل- .

وكما فهمنا الفرق بين الفاكهة واللحم ، وبين الماء والعسل ، وإن كنَّا لا نعرف كيفية هذه الأشياء لأنها غيب بالنسبة لنا ، فأولى بذلك وأولى أن نفهم معاني صفات الرب جل وعلا ، ونعرف أن هناك فرقاً بين السمع والبصر ، وبين العلم والقدرة ، ولكن لا نعرف كيفية السمع ، ولا كيفية البصر ، ولا كيفية العلم ، ولا كيفية القدرة ، وكذلك نقول في كيفية الاستواء وكيفية النزول ، ولذلك نقول : من أراد بقوله « إن آيات الصفات وأحاديثها متشابهة » بمعنى أنها مجهولة الكيفية لا يعلمها إلا الله ، فهذا كلام حق ، فقوله -تعالى-: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ) بمعنى لا يعلم كيفية الأمور الغيبية إلا الله أما إذا قصد أنه لا يعلم معناها بالكلية بل هي بمنزلة الكلام الأعجمي فهذا كلام باطل .

هذا إذا كان الكلام خبراً، أما إذا كان الكلام أمراً أو نهياً وليس خبراً فيكون معنى التأويل فعل المأمور به أو ترك المنهي عنه ، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- : « كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : (سُبْحَانَكَ اللهمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ)، أي يفعل ما أُمِرَ به في القرآن ، لأن اللهُ -عز وجل- قال له : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)(النصر : 3).

وكذلك نحن نتأول القرآن في الركوع قال -تعالى-: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الحاقة : 52)، فنقول : « سبحان ربي العظيم » ، فهذا تأويل للقرآن ، أي أنه في باب الأوامر والنواهي يكون فعلُ المأمورِ به وتركُ المنهيِ عنه « تأويلاً » ، وليس ذلك هو التأويل الذي بمعني التفسير، هذا على القراءة الأولى بالوقف اللازم على لفظ الجلالة ، والتأويل فيها بمعنى كيفية الأمور الغيبية .

القراءة الثانية : وكان يقرأ بها ابن عباس -رضي الله عنهما- ، كان يقرأ : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، بلا وقف ، يعني أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله ، فهل يصح أن نقول إنها تُحمَل على معرفة الأمور الغيبية؟! قطعاً لا يصح، لأن الراسخين في العلم لا يعلمون وقت قيام الساعة ، ولا يعلمون كيفية الغيبيات ، ولا يعلمون كيفية صفات الرب -تعالى- قطعاً ، فقراءة العطف هذه وقول ابن عباس -رضي الله عنهما- : « أنا من الذين يعلمون تأويله » المقصود بها التفسير ، وهو معرفة المعنى دون الكيفية ، فالراسخون في العلم يعلمون تأويله أي تفسير القرآن دون أن يعلموا حقيقة الغيبيات ، يفهمون المعاني ولا يعرفون الكيفية ، فهم يفهمون الفرق بين الحور العين ، والفاكهة مما يتخيرون ، ولحم الطير مما يشتهون ، والماء المسكوب ، والخمر اللذة للشاربين ، نعرف معاني الكلمات ، ولا نعرف كيفية هذه الأشياء ، فنحن نعلم الفرق بين هذه الأشياء وبين الماء الحميم الذي يُسْقَاهُ الكفار فيُقَطِّع أمعاءهم ، ولا نعرف كيفية الماء الحميم .

لذلك نقول : من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ، فمعنى أننا لا نُكَيِّف صـفات الـرب -سبحانه وتعالى- أي لا نعرف حقيقتها ولا كيفيتها ، ومعرفة الحقيقة معناها المعرفة التفصيلية الدقيقة الكاملة ، قال الله -عز وجل- : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) (طه : 110).

ولذلك نقول لمن يتخيل كيفية معينة لصفات الرب جل وعلا : اعلم أن الرب ليس كذلك ، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ)، لا يعلم كيفية صفات الرب إلا الله -عز وجل- ، حتى أهل الإيمان عندما يرون الله يوم القيامة ، لن يحيطوا به علماً ، ولن يعرفوا كيفية صفاته -عز وجل- ، سيطَّلِعون على أمور أكثر ، ويعرفون ربهم أكثر ، ويحبون الله أكثر ، ولكن من غير أن يحيطوا به علماً ، لأن الله -عز وجل- هو العلي الكبير ، ولذلك في إثبات رؤية الله يوم القيامة ، يقول الأئمة : «من غير إحاطة ولا كيفية» ، لأنه أكبر من أن يحيط به بصرُ خلقه ، حتى إن أبصار المؤمنين في الجنة لا تحيط به ولا بكيفيته ، فنحن ننظر للسماء ونراها ولا نحيط بها ، أين آخرها ؟! لا نعلم ، لأنها كبيرة جداً بالنسبة لنا ، فالخلق كله صغير جداً بالنسبة لعظمة الله ، فالله أكبر من كل شيء ، فلا نقول : « هل هناك اتصال أشعة تنعكس على الحدقة الإنسانية أم كيف نراه ؟ » ، لا نتكلم في الكيفية ، هناك كيفية لا نعلمها ، فكيفية الرؤية مجهولة وكل صفات الرب -سبحانه وتعالى- الكيف فيها مجهول ، فكلمة الإمام مالك ـ رحمه الله ـ ، : « الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة »هذه الكلمة نطبقها في كل أسماء الله وصفاته .

وللتأويل معنى ثالث اصطلاحي وهو المقصود في هذا الباب وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى محتمل مرجوح لدليل يقترن به ، وما كان منه بلا دليل فهو المذموم شرعاً كمن يُؤوِّل (اسْتَوَى) بـاستولى ، واليد بالقدرة ، والرحمة بإرادة الخير أو إرادة الثواب ، وهذا هو تحريف المعنى الذي سبق أن بَينَّاه .

وقد أجمع السلف على الكف عن هذا التأويل ، ولم يُفسروا أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه التأويلات البعيدة ، بل قالوا : أَمِرُّوها كما جاءت ، أي دالةً على معانيها اللائقة بجلال الله -عز وجل- والإقرار بجهل كيفيتها ، لذلك نقول « بغير تكييف » ، أي لا نعتقد كيفية معينة لصفات الله ، مع أن لها كيفية ، لكن هذه الكيفية مجهولة ، فنفي الكيفية هنا في قولنا : « الكيف مجهول » ، يعني نفي معرفتنا للكيفية ، أما نفي التشبيه والتمثيل فهو على عمومه ، لا يوجد مثيلٌ لله -عز وجل-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى : 11)، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)(الإخلاص : 4).

ولذلك اتفق السلف على ذم الفلسفة وعلم الكلام ، وأنها ليست مصدراً لعلم العقيدة، ولهذا كانت بدعة الجهمية بنفي الأسماء والصفات وتعطيلها ، وبدعة المعتزلة في نفي الصفات من شر البدع .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة