الثلاثاء، ٢٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٧ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

عقيدة السلف في الصفات .. شرح المنة (12)

عقيدة السلف في الصفات .. شرح المنة (12)
الثلاثاء ٠٣ أبريل ٢٠٠٧ - ١٨:٢٥ م
10

عقيدة السلف في الصفات .. شرح المنة (12)

التعبد لله -تعالى- بالأسماء والصفات

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

نستكمل شرح المنة من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في التعبد لله -عز وجل- بأسمائه الحسنى بالشهود والمعاملة، يقول -رحمه الله تعالى-:

وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات، ولا في قرار البحار، ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه، علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإرادته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء.

وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه -سبحانه- لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة.

وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير -جل جلاله- الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها، وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه ومشاهدة، لا يغيب عنه منها شيء، وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه -تعالى- هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه، وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى.

وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد ربوبية، وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك، فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلي له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر وفاقة، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تَكَثُّر بغيره قِلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات، وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على الحقيقة هو الغني الصمد الكامل في أسمائه وصفاته، الذي حاجة كل أحد إليه ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، كما يستحيل أن يكون له إلهان، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد، واختل أعظم اختلال، كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافي استقلالهما، أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره؛ لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به، وينكرون توحيد الإلهية، ويقولون: (أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)< ص : 5 > مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله -تعالى- الرسول يُذَكِّر بما في فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له، وأنهم لو رجعوا إلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه.

فمشهد الإلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله -جل جلاله-، فإن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال : الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله، ولا يقال : الله من أسماء الرحمن ، قال الله –تعالى-: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)< الأعراف : 180 >، فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها، وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية، وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإله الحق، وصار من أغنى العباد.

وقال في حال السابقين المقربين: « فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القَدْر المشترك.

وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه، والرغبة إليه والرهبة منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والسكون إليه، والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة