الاثنين، ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٦ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

عقيدة السلف في الصفات.. شرح المنة (13)

عقيدة السلف في الصفات.. شرح المنة (13)
السبت ١٤ أبريل ٢٠٠٧ - ١٧:١٦ م
12

عقيدة السلف في الصفات.. شرح المنة (13)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

قال ابن القيم -رحمه الله- في وصف حال أحد السابقين المقربين:

وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله ، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب ، قد أنساهم حبه ذكر غيره ، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه ، قد فنوا بحبه عن حب من سواه ، وبذكره عن ذكر من سواه ، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره،

فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه ، واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى وأسماءه الحسنى ، مشاهداً له في أسمائه وصفاته ، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته ، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه ، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه ، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة ، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء ، وقيل لبعض العارفين : أيسجد القلب بين يدي ربه ؟ قال : إي والله ، بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة ، فشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان ، وخرق حجب الطبيعة ، ولم يقف عند رسم ، ولا سكن إلى علم ، حتى دخل على ربه في داره (<1>) فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله ، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم ، فيأمر فيها بما يشاء ، فينزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر ، فيشاهد (<2>) الملك الحق قيوماً بنفسه مقيما لكل ما سواه ، غنياً عن كل من سواه وكل من سواه فقير إليه (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)، يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويفك عانياً وينصر ضعيفاً ويجبر كسيراً ويغني فقيراً ، ويميت ويحيي ويسعد ويشقي ويضل ويهدي وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ، ويعز أقواماً ويذل آخرين ويرفع أقواماً ويضع آخرين .

 ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره حيث يقول في الحديث الصحيح: (يَمِينُ اللهِ ملى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الخَلْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)(<3>) ، فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه ، وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاء عدلاً منه وحكمة ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن ، ليس له بواب فيستأذن ، ولا حاجب فيدخل عليه ، ولا وزير فيؤتى ، ولا ظهير فيستعان به ، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه ، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده ، ولا معين له فيعاونه على قضائها ، بل قد أحاط سبحانه بها علماً ووسعها قدرة ورحمة .

فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً ، ولا يشغله منها شأن عن شأن ، ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا في صعيد واحد ثم سألوه فأعطى كلا منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا انغمس فيه . ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ، ذلك بأنه الغني الجواد الماجد ، فعطاؤه كلام وعذابه كلام (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82)، ويشهده كما أخبر عنه أيضاً الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: (إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)(<4>).

وبالجملة فيشهده في كلامه فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه وتراءى بهم فيه وتعرف إليهم فيه ، فبعداً وتباً للجاحدين والظالمين (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(ابراهيم: من الآية10)، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم .

فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهداً لقلبه أَنْسَتْه ذِكرَ غيره وشغلته عن حب من سواه وحديث دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه ، فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها فبه يسمع ، وبه يبصر ، وبه يبطش وبه يمشي كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله .

ومَن غَلَظَ حِجابُه وكَثَفَ طبعُه وصلب عوده فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه مالا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أو يفهم منه غير المراد منه فيحرف معناه ولفظه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(النور: من الآية40)،



([1]<1>) ثبت لفظ (في داره) في حديث الشفاعة من رواية أنس -رضي الله عنه- وفيه : (فأستأذن على ربي في داره ... ) الحديث < رواه البخاري : 7440 > . وداره -عز وجل- هي الجنة، قال الإمام الخطّابي < فتح الباري: 13/429 > تعليقاً على حديث أنس -رضي الله عنه-: « هذا يوهم المكان ، والله منزّه عن ذلك ، وإنما معناه في داره الذي اتخذها لأوليائه ، وهي الجنة ، وهي دار السلام ، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل بيت الله وحرم الله » ا.هـ. وليس معنى : (في داره) الحلول في شيء من مخلوقاته .

([2]<2>) لا يعني -رحمه الله- إثبات الرؤية لله في الدنيا، وإنما يقصد العلم ومشاهدة آثار الملك.

([3]<3>) رواه البخاري (7419)، ومسلم (993).

([4]<4>) رواه مسلم (179) ، وابن ماجة (195) وأحمد (4/395) من حديث أبي موسى الأشعري .

 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة