الاثنين، ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٦ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

عقيدة السلف في الصفات .. شرح المنة (14)

عقيدة السلف في الصفات .. شرح المنة (14)
الأحد ٢٢ أبريل ٢٠٠٧ - ١٤:٥٨ م
10

عقيدة السلف في الصفات .. شرح المنة (14)

التعبد لله بالأسماء والصفات

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

نستكمل كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- في ذكر حال أحد السابقين إلى الله -عز وجل- ضمن الكلام عن التعبد لله -تعالى- بأسمائه وصفاته،

وبالجملة فيبقى قلب العبد - الذي هذا شأنه - عرشاً للمثل الأعلى ، أي عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه ، وناهيك بقلب هذا شأنه فيا له من قلب من ربه ما أدناه ما أحظاه ، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره ، فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم في فرشهم ، كما قال أبو الدرداء : إذا نام العبد المؤمن عرج بروحه حتى تسجد تحت العرش ... فإن كان طاهراً أذن لها في السجود ، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر الذي لأجله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ ([1]<1>) ، وهو إما واجب على أحد القولين ، أو مؤكد الاستحباب على القول الآخر ، فإن الوضوء يخفف حدث الجنابة ويجعله طاهراً من بعض الوجوه ، ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كان أحدهم جنباً ثم أراد أن يجلس في المسجد توضأ ثم جلس فيه ([2]<2>) ، وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره .

مع أن المساجد لا تحل لجنب ، على أن وضوءه رفع حكم الجنابة المطلقة الكاملة التي تمنع الجنب من الجلوس في بيت الله وتمنع الروح من السجود بين يدي الله -سبحانه-، فتأمل هذه المسألة وفقهها واعرف بها مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم ، فهل ترى أحداً من المتأخرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذي خص الله به خيار عباده وهم أصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقاً إليه طالباً له محتاجاً إليه عاكفاً عليه ، فحاله كحال المحب الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه ولابد له منه ، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب ، فإذا نام غاب عنه ، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه ، وإلى الشوق الشديد والحب المقلق ، فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه كما قال بعض المحبين لمحبوبه :

وَآخِرُ شَيْءٍ أَنْتَ فِي كُلِّ هَجْعَةٍ


 

وَأَوَّلُ شَيْءٍ أَنْتَ عِنْدَ هُبُوبِي


فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا في محبة مخلوق لمخلوق فما الظن في محبة المحبوب الأعلى، فأف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة.

فإذا استيقظ أحدهم وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إليه واستعطافه والتملق بين يديه والاستعانة به ألا يخلي بينه وبين نفسه ، وأن لا يكله إليها فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة ، بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فأول ما يبدأ به الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سوياً سليما محفوظاً مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات التي هو غرض وهدف لسهامها كلها تقصده بالهلاك أو الأذى ، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن ، فإنها تلتقي بروحه إذا نام فتقصد إهلاكه وأذاه ، فلولا أن الله سبحانه يدفع عنه لما سلم.

هذا وكم تتلقى الروح في تلك الغيبة من أنواع الأذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداء والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأرواح ، فمن الناس من يشعر بذلك لرقة روحه ولطافتها ويجد آثار ذلك فيها إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحي الذي ربما غلب حتى سرى إلى البدن ، ومن الناس من تكون روحه أغلظ وأكثف وأقسى من أن تشعر بذلك ، فهي مثخنة بالجراح مزمنة بالأمراض ولكن لنومها لا تحس بذلك ، هذا وكم من مريد لإهلاك جسمه من الهوام وغيرها وقد حفظه منه فهي في أحجارها محبوسة عنه لو خليت وطبعها لأهلكته ، فمن ذا الذي كلأه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره ، فلو جاء البلاء من أي مكان جاء لم يشعر به ، ولهذا ذكَّر الله سبحانه عباده هذه النعمة وعدها عليهم من جملة نعمه فقال: (قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:42)

فإذا تصور العبد ذلك فقال : « الحمد لله » كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك ، ثم تفكر في أن الذي أعاده بعد هذه الإماتة حياً سليماً قادراً على أن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان ، ولهذا يقول بعدها « وإليه النشور » ثم يقول : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله » ، ثم يدعو ويتضرع ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه ، ثم يصلي ما كتب الله له ، صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه ، لا صلاة مدل بها عليه ، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره ، واستزاره وطرد غيره ، وأهّله وحرم غيره ، فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ، ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة .

فهو يتمنى طول ليله ويهتمّ بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك ، فهو كما قيل :

يود أن ظلام الليل دام له


 

وزيد فيه سواد القلب والبصر


فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم ، يناجيه بكلامه معطياً لكل آية حظها من العبودية فتجذب قلبه وروحه إليه آيات المحبة والوداد ، والآيات التي فيها الأسماء والصفات ، والآيات التي تَعَرّف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم ، وتطيّب له السير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيّب له السير ويهونه ، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه ، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه ، فتأمل هذه الثلاثة وتفقه فيها ، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وبالجملة فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى في كلامه ويعطي كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على مجرد تلاوتها والتصديق بأنها كلام الله ، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها . ثم شأن آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبلُ يلعب، كما قيل:

وَكُنْتُ أَرَى أَنْ قَدْ تَنَاهَى بِيَ الهَوَى
فَلَــمَّا تَلاقَيْنَــا وَعَــايَنْتُ حُسْنَهَـا


 

إِلَى غَايَــةٍ مَــا بَعْدَهَــا لِيَ مَذْهَبُ
تَيَقَّنْتُ أَنِّي إِنِّــــمَا كُنْتُ الــعَبُ


فوا أسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة ، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها ، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس ، فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً ، اللهم فلك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك ([3]<3>) .

وهذا باب سعادة عظيم، بل أعظم أسباب السعادة، وهو أن يتعبد الإنسان بمقتضى أسماء الله وصفاته ويحب الرب -عز وجل- بها، ويدعوه بها، ونجد أن أدعية الكتاب والسنة كلها تدور حول التوسل إلى الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته.  



([1]<1>) رواه البخاري (290) ، ومسلم (306) ، والنسائي (260) ، وأبو داود (221) ، والترمذي (120) ، وابن ماجة (585) وأحمد (5931).

([2]<2>) رواه سعيد بن منصور في السنن (4/1275) في تفسير سورة النساء، وذكره ابن كثير في تفسيره (1/503)، وقال: هذا إسناد على شرط مسلم.

([3]<3>) من كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتاب طريق الهجرتين.


موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة