الاثنين، ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٦ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

عقيدة السلف في الصفات ... شرح المنة (10)

عقيدة السلف في الصفات ... شرح المنة (10)
الأربعاء ٢٥ أبريل ٢٠٠٧ - ١٤:٥١ م
12

عقيدة السلف في الصفات ... شرح المنة (10)

التعبد لله باسمه الأول والآخر

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

كنا نتكلم عن مسألة من أعظم المسائل أهمية هي مسألة التعبد لله -عز وجل- بالأسماء والصفات، وقد ذكرنا جملة من كلام ابن القيم -رحمه الله- في التعبد لله -سبحانه وتعالى- باسمه الأول والآخر، والظاهر والباطن، يقول -رحمه الله-:

والتعبد بهذه الأسماء رتبتان :

الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه -تعالى- في كل شيء والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب ، والرب -جل جلاله- ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه . والمرتبة الثانية من التعبد أن يعامل كل اسم بمقتضاه ، فيعامل سبقه -تعالى- بأوليته لكل شيء ، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره ، فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام ، ووسمك بسمة الإيمان ، وجعلك من أهل قبضة اليمين ، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين ، فعصمك عن العبادة للعبيد ، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكْلٌ ونديد . ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه ، فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم ، وقضى لك بقَدَمِ الصِدق في القِدَم ، أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها وكانت أوليتها منه بلا سبب منك ، وَاسْمُ بِهِمَّتِكَ عن ملاحظة الاختيار ، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار ، ولا تقنع بالخسيس الدون ، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، فإن الله -سبحانه- قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته ، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد ، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد ، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد ، ثم اسمُ بسرك إلى المطلب الأعلى ، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك ، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب ، وهيأ لك وصرف عنك موانعها ، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة فتوكل عليه وحده ، وعامله وحده ، وآثر رضاه وحده ، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها ، مستلماً لأركانها ، واقفاً بملتزمها ، فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله ، « الَّلهُمَّ لا مَانِعَ لمِا أَعْطَيْتَ ، وَلا مُعْطِي لمِا مَنَعْتَ ، وَلا يَنْفَعُ ذًا الجَدِّ مِنْكَ الجِدُّ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ » .

ثم تعبَّد له باسمه الآخر بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه ولا مطلوب لك وراءه ، فكما انتهت إليه الأواخر وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه فإن إلى ربك المنتهى ، إليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهى إليه ، وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر ([1]<1>) .

وأما التعبد باسمه الباطن فإذا شهدت إحاطته بالعوالم وقربَ البعيد منه وظهورَ البواطن له وبدوَّ السرائر له وأنه لاشيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود ، وطهر له سريرتك فإنها عنده علانية وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة ، وزَكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر ... » ا.هـ ([2]<2>)

وقال -رحمه الله- : « فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- ، وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه ، وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز ، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه ، فيستحى أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك ، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصريف ـ من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء ، وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس ـ إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه ، فمراسمه نافذة كما يشاء (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة:5)، فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به.



([1]<1>) قال ـ رحمه الله ـ : « فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته ، وأنه ليس فوقه شيء البتة ، وأنه قاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(فاطر: من الآية10)، صار لقلبه أمماً يقصده ، ورباً يعبده ، وإلهاً يتوجه إليه ، بخلاف من لا يدري أين ربه فإنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إليه قصده ، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلها يسكن إليه ويتوجه إليه ، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم ، وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويسجد ، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح ، جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتحاد ولا بد ، وتعلق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعينات ، فاتخذ إلهه من دون إله الحق وظن أنه قد وصل إلى عين الحقيقة ! وإنما تأله وتعبد لمخلوق مثله ، ولخيال نحته بفكره واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه ، وإله الرسل وراء ذلك كله (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (يونس 3-4)، وقال : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة 4-9)

([2]<2>) طريق الهجرتين (1/47-49).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة