عقيدة السلف في الصفات
... شرح المنة (10)
التعبد لله باسمه الأول
والآخر
كتبه/
ياسر برهامي
الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
كنا
نتكلم عن مسألة من أعظم المسائل أهمية هي مسألة التعبد لله -عز وجل- بالأسماء
والصفات، وقد ذكرنا جملة من كلام ابن القيم -رحمه الله- في التعبد لله -سبحانه
وتعالى- باسمه الأول والآخر، والظاهر والباطن، يقول -رحمه الله-:
والتعبد بهذه الأسماء رتبتان :
الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه -تعالى- في كل شيء
والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء
فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب ، والرب -جل
جلاله- ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه . والمرتبة الثانية من التعبد أن يعامل كل
اسم بمقتضاه ، فيعامل سبقه -تعالى- بأوليته لكل شيء ، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب
كلها بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على
غيره ، فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم
الإسلام ، ووسمك بسمة الإيمان ، وجعلك من أهل قبضة اليمين ، وأقطعك في ذلك
الغيب عمالات المؤمنين ، فعصمك عن العبادة للعبيد ، وأعتقك من التزام الرق لمن له
شكْلٌ ونديد . ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه ، فاضرع إلى
الذي عصمك من السجود للصنم ، وقضى لك بقَدَمِ الصِدق في القِدَم ، أن يتم عليك
نعمة هو ابتدأها وكانت أوليتها منه بلا سبب منك ، وَاسْمُ بِهِمَّتِكَ عن ملاحظة
الاختيار ، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار ، ولا تقنع بالخسيس الدون ، وعليك
بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله -سبحانه وتعالى-،
فإن الله -سبحانه- قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته ، ومن كان لله كما يريد كان
الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد ومن تصرف بحوله وقوته ألان له
الحديد ، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد ، ومن أراد مراده الديني أراد ما
يريد ، ثم اسمُ بسرك إلى المطلب الأعلى ، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله
وإحسانه إليك كل سبب منك ، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب ، وهيأ لك وصرف عنك
موانعها ، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة فتوكل عليه وحده ، وعامله وحده ، وآثر
رضاه وحده ، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها ، مستلماً
لأركانها ، واقفاً بملتزمها ، فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك
، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله ، « الَّلهُمَّ لا مَانِعَ لمِا
أَعْطَيْتَ ، وَلا مُعْطِي لمِا مَنَعْتَ ، وَلا يَنْفَعُ ذًا الجَدِّ مِنْكَ
الجِدُّ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ » .
ثم تعبَّد له باسمه الآخر بأن تجعله وحده غايتك التي لا
غاية لك سواه ولا مطلوب لك وراءه ، فكما انتهت
إليه الأواخر وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه فإن إلى ربك المنتهى ، إليه
انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهى إليه ، وقد تقدم
التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر ([1]<1>) .
وأما التعبد باسمه الباطن فإذا شهدت إحاطته بالعوالم
وقربَ البعيد منه وظهورَ البواطن له وبدوَّ السرائر له وأنه لاشيء بينه وبينها
فعامله بمقتضى هذا الشهود ، وطهر له سريرتك فإنها عنده علانية وأصلح له غيبك فإنه
عنده شهادة ، وزَكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر ... » ا.هـ ([2]<2>)
وقال -رحمه الله- : « فمن شهد مشهد علو الله على خلقه
وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق
المصدوق -صلى الله عليه وسلم- ، وتعبد
بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً
بين يديه ، وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز ، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد
إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه ، فيستحى أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه
ويفضحه هناك ، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت
بأنواع التدبير والتصريف ـ من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع
والعطاء والمنع وكشف البلاء ، وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس
ـ إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه ، فمراسمه نافذة
كما يشاء (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة:5)، فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية
استغنى به.