الأربعاء، ١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ٠٨ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الشرك في الدعاء... شرح المنة (18)

الشرك في الدعاء... شرح المنة (18)
السبت ١٩ مايو ٢٠٠٧ - ١٤:٢٤ م
11

الشرك في الدعاء... شرح المنة (18)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على الله، أما بعد،

ذكرنا قبل ذلك أن الشرك الأكبر في الأسماء والصفات أن يعتقد شخصٌ وجود نِدٍّ لله -سبحانه وتعالى- في أسمائه وصفاته ، والشرك الأكبر في الربوبية أن يعتقد نِداً لله - عز وجل- في ربوبيته خالقاً أو مالكاً أو مُشَرِّعًا ، فكذلك إذا اعتقد إلهًا مع الله أو صرف العبادة لغير الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله - عز وجل- إلا بالتوبة منه.

فالشرك الأكبر في توحيد الألوهية : هو صرف العبادة لغير الله - عز وجل- ، سواء أكان هذا الغير مَلَكًا مُقَرَّبًا أم نبياً مرسَلاً أم ولياً صالحاً ([1]<1>)، فضلاً عما دون ذلك من الأحجار والأشجار والقبور، ولو على سبيل التوسل إلى الله ([2]<2>)، فالكفار كانوا يقولون عن آلهتهم: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر: من الآية3).

ومعلوم أن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغُلو في الصالحين، وهو الذي وقع فيه قوم نوح -عليه السلام-، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ( هَذِه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ ) ([3]<3>)، وهذا يدلنا على أن الغلو في الصالحين من أعظم أسباب الشرك الأكبر، والمعلوم أن اليهود يعبدون عُزيراً ويسمونه ابن الله، والنصارى يعبدون المسيح ويسمونه ابن الله، وأن المشركين كانوا يسمون أوثانهم بالأسماء المؤنثة المشتقة من أسماء الله - عز وجل- على أنها ترمز للملائكة ، التي اعتقدوا أنها بنات الله ـ -تعالى- عما يقولون علواً كبيراً ـ فعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى ، كما قال -تعالى-: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (لنجم:19-20) فاشتقوا اللاتَ من الله، والعُزَّي من العزيز، ومَنَاةَ من المنَّان (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (لنجم: 21-23) إلى قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (لنجم: 27-28)، هذا يدلنا على أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، وكذلك النصارى يعبدون الروح القدس، ويقولون عنه هو الله وأنه أحد الأقانيم الثلاثة المعبودة، أما في هذه الأمة فقد ظهر صرف العبادة للأولياء، ونبهنا على ذلك لكثرة من يصرف لهم العبادة من دون الله ، فضلاً عما دون ذلك من الأحجار والأشجار والقبور، حتى على سبيل التوسل لأن كثيراً من الناس لا يعبد هذه الأشياء ابتداءً، ولكن لتقربهم إلى الله - عز وجل- على سيبل الوَسَاطة، كما قال - عز وجل- عنهم: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر: من الآية3)، وقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (يونس:18)

إذن فلا فرق بين كونه قاصداً لعبادة هؤلاء ابتداءً، أو عَبَدَهم على سبيل التوسل إلى عبادة الله - عز وجل-، أو التقرب إلى الله -تعالى-، طالما صرف العبادة لغير الله، وعَبَدَ غير الله - عز وجل-.

ولكن لا شك أن هناك فرقاً بين المشركين الأوائل وبين من وقع في الشرك من هذه الأمة، وهو أن الأوائل الذين بُعِثَ فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاربهم كانوا يُصَرِّحون أنهم يعبدون غير الله ، كما قال الله - عز وجل-: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا)(الزمر: من الآية3)، وكانوا يُسمُّونها آلهةً معبودة ، وأما مَن وقع في الشرك من هذه الأمة فكثيرٌ منهم لا يعتقد أنهم آلهة ولا يرى أنه يعبدهم ، وإن كان في الحقيقة يعبدهم ، كما قال عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ : ( يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ )، فَطَرَحْتُه. وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31)، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهم، فَقَالَ: ( أَليسُوا يُحَرِمُون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونه ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَه )، قُلْتُ : بَلَىَ ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ( فَتِلْكَ عِبَادَتُهم ) ([4]<4>)، وذلك لأن من صرف العبادة لغير الله، حتى ولو لم يُسَمِّها عبادة فقد عَبَدَ غير الله، لكن هناك فَرقٌ بين مَن لم يقصد العبادة ولم يكن يعلم أنها عبادة، فهذا لا بد من إقامة الحجة عليه، وأما من صَرَّحَ بأنه يعبد غير الله فالحجة قائمةٌ عليه بكلمة ( لا إله إلا الله ) إذا بلغته عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

لذلك لو قال إنسان إنه يعبد الأوثان التي على قبور الصالحين، فهذا نَقَضَ أصل التوحيد صراحةً، وأما من قال أنا لا أعبدهم، وإن كان قد دعاهم واستغاث بهم وطلب المَدد منهم، فهذا نذكر له الآيات والأحاديث الدالة على أن دعاء غير الله عبادةٌ لهذا الغير ، فإذا أصر على ذلك فهو كافرٌ خارج من الملة.

مظاهر الشرك في الألوهية:

1- دعاء غير الله:

من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لمن مات وهو مُصِرٌّ عليه بعد بلوغ الحجة: الدعاء والاستغاثة وطلب المدد من الأموات والغائبين ، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف: 5-6)، فهذا أضلُّ الخلقِ، فالاستفهام (وَمَنْ أَضَلُّ) للنفي ، أي أنّه ليس هناك أضلُّ ممن يدعو مِن دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة، والآية عامة في أنه ليس هناك أحدٌ من دون الله يستجيب لداعيه، قال - عز وجل-: (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) لأنهم أمواتٌ وغائبون وغير حاضرين (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)، فهذا نصٌ في أن الدعاء هو العبادة لأنه قال: (مِمَّنْ يَدْعُو)، وقال: (هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، ثم قال : (... كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)، فإذن الدعاء عبادة، وهذا نصٌ واضح لا يحتمل تحريفاً ولا تأويلاً في أن الدعاء هو العبادة ، وأنهم إذا دعوا غير الله فقد عبدوا غير الله، وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: ( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ )، ثُمَّ قَرَأَ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(غافر:60).

قال -تعالى-: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ( يونس : 106-107 )، فقد بيَّن -سبحانه وتعالى- وجوب توحيد الألوهية في الدعاء وغيرِه من أنواع العبادات ، وبيّن دليله من توحيد الربوبية لأن أكثر أو كل من يدعو أحداً من دون الله فإنّه لابد أن يعتقد فيه الضر والنفع ، فقال سبحانه و-تعالى-: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ)، فلو اعتقد إنسانٌ أن هذا الشيء لا ينفعه ولا يضره فكيف يدعوه من دون الله - عز وجل-؟! ، وكيف يطلب منه قضاء الحاجات وكشف الكُرُبَاتِ ودفع المضار وجلب المنافع ؟!  ويقول قائل: النفع والضر ودعاه من دون الله فهذا من أعظم الشرك في الربوبية وفي الألوهية ، قال - عز وجل-: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)، وهذا خطابٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به غيره، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يفعل هذا ، ولكن خوطِب -صلى الله عليه وسلم- بذلك لكي يتبين بهذا أن أصلح الصالحين وأفضل الخلق لو فعل هذا لكان من الظالمين ولكان مشركاً، كما قال - عز وجل-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر:66) ، فلا يصح أن يُقال : فلانٌ الرجل العالم أو الصالح يفعل ذلك ، أو هناك من المشايخ من يفعلون ذلك ، فإن الآية ذكرت أنه لو فعله نبي من الأنبياء لكان من الظالمين ، فالحُجَّةُ في ذلك هو كلام الله -سبحانه وتعالى- ، فلا يجوز لأحدٍ بعد أن تُبين له الحجة من كلام الله - عز وجل- أن يقول: ( الشيخ الفلاني يقول كذا )، فإن الله - عز وجل- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)، وهو أفضل الخلق ، ولو فعل ذلك لكان من الظالمين ، فلا يَحْتَجُّ على كلام الله -تعالى- إلا الظالمون الذين لا يصدقون كلام الله -سبحانه وتعالى- فلا يقع هذا من مسلم بعد بيان القرآن .

ولهذا فمن أراد أن يتعلق بدعاء الله وحده، فليستحضر هذا المعنى من توحيد الربوبية، وهو أن الله وحده هو الضار النافع، فالله -عز وجل- هو الذي يَمَسُّ بالضر من أراد، وهو الذي يكشف الضر عمن أراد، والله - عز وجل- هو الذي يَمَسُّ ويريد بالخير من أراد ولا يمنع فَضْلَه سبحانه أحدٌ ، وهي معانٍ تكررت في القرآن العظيم مراتٍ عديدة ، فقال - عز وجل- في سورة الأنعام قال الله -عز وجل-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ( الأنعام : 17-18 ) ، وفي سورة يونس: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107) ، وقال -سبحانه وتعالى- في سورة فاطر: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(فاطر: الآية13)، و (قِطْمِيرٍ)القشرة التي على نواة التمرة، وقال -تعالى-: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر:14)، وهذا أيضاً نصٌ قاطعٌ بأن دعاء غير الله شرك ، لأنه قال: (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)  فسمى ذلك شركاً .

وقد يقول قائل : إذن فما هو الدعاء ؟ وهل يمنع أن يسأل الإنسان غيره ؟ أليس الأموات حاضرين بدليل قوله -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)؟

فنقول ليس في الآية وجه للدِلالة على أن الأموات يعاملون كالحاضرين، وإنما المعنى : أن أولياء الله عند الله -سبحانه وتعالى- آمنون وفي نعيم ، وهم في حياةٍ برزخية ، فغير صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضر في قبره ، يسمع من دعاه ويجيب دعاءه ، وإنما يسمع من يسلم ويرد عليه السلام ، لأن هذا هو الذي ورد به الدليل ، وهذا الحضور ـ لو سلمنا به ـ فهو حضور مع الموت ، فقد قال الله سبحانه : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا).

 فإن قيل : هذه الآية في عُبَّادِ الأوثان .

 فنقول: إن عُبَّادَ الأوثان يعتقدون أنها صورٌ للملائكة ، والملائكة قد تكون حاضرة ولكن لا اعتبار لهذا الحضور ، لأن العبرة في المخاطَب بالسؤال أن يكون حاضراً بالأسباب الظاهرة ، نشاهده ونَسمَعه ، بخلاف أن نطلب من البعيد والغائب حياً كان أو ميتاً .

فمثلاً لو أن إنساناً يغرق وله شيخ حي غائب عنه فقال : أغثني يا سيدي فلان أو أدركني يا شيخ فلان ، لكان مشركاً بالله شركاً أكبر ، لأن الدعاء هو الطلب على الغيب، والسؤال على الغيب، أي يطلب من الغائب.

وذلك بخلاف ما إذا كان المطلوب منه حاضراً ، فمثلاً لو أن إنساناً يغرق فقال: أدركوني ، أغيثوني للحاضرين أو لمن يتوقع حضورهم بالأسباب الظاهرة ، فهذا طلبٌ مباح ، أما دعاء الجن والملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء ، فهذا هو الشرك الذي أنزل الله - عز وجل- فيه هذه الآيات، لأن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون إنها بنات الله -سبحانه وتعالى-، فأنزل الله فيهم هذه الآيات .

إذن فالدعاء على الغيب، أو الطلب من الغائب، شركٌ سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً، فالأموات وإن كانوا أحياء عند الله - عز وجل- في برزخهم ، إلا أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل أنهم يسمعونه ، فهم يسمعون سلام من يسلم عليهم ([5]<5>) ، ويسمعون من يسأل الله لهم العافية ويدعو لهم ، وإذا تأملنا في الدعاء للميت ، نجد أن الحي هو الذي يدعو للميت، ولا يجوز أن يُسأل الميت قضاء الحاجات ولا أن يُدْعَى من دون الله ([6]<6>).

والآيات في هذا كثيرة ، لأن هذا هو الشرك الذي وقع فيه عُبَّادُ الأوثان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي كل العهود .



([1]<1>) أكثر الناس إنما يعبدون الملائكة والرسل والأولياء ظناً منهم أن ذلك يقربهم إلى الله عز وجل.

([2]<2>) يصرفون العبادة لغير الله ويسمونه توسلاً، وشتان بين هذا التوسل الشركي وبين ما يجوز من التوسل الشرعي فتنبه .

([3]<3>) رواه البخاري (4920) .

([4]<4>) رواه الترمذي (3095) وحسنه الألباني .

([5]<5>) فقد ورد الخطاب لهم بذلك ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى المَقْبُرَةَ ، فَقَالَ : « السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ » < رواه مسلم (249 ، 974) ، وأبو داود (3237 ، 5172) ، والنسائي (150، 2039) ، وابن ماجة (1546 ، 4306) ، وأحمد (7933، 8661 ، 23904) ، والموطأ (60) > .

([6]<6>) إن من أهل العلم من قال بسماع الأموات، ولكن هذا لا يجيز ولا يبيح دعاءه من دون الله؛ لأن الدعاء عبادة لا تصرف إلا لله، وهؤلاء الأموات لا يملكون ضراً ولا نفعًا، راجع « التعليقات السنية » للمؤلف.


موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة