الأربعاء، ١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ٠٨ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

حكم السحر... شرح المنة (20)

حكم السحر... شرح المنة (20)
الأربعاء ٣٠ مايو ٢٠٠٧ - ١٦:٥٨ م
11

حكم السحر... شرح المنة (20)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

السحر أصله في اللغة : كل ما لَطُفَ ، وخفي ، والسحر حرام بالإجماع ، ومن الكبائر.

قال -تعالى-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلك سليْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102)

وفي الحديث: ( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ.....) الحديث[1]<1>

حكم الساحر:

واختلفوا في كفر الساحر:

فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، ومنهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وقال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين،  [2]<2> فلا يكفر.

وفَصَّل الشافعي فقال: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر، مثل ما يعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يُلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر.

ولعل هذا التفصيل هو الأقرب، وهناك من العلماء من يُطْلِق الكفر، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في ذكر نواقض الإسلام، فذكر منها السحر ومنه الصرف والعطف، والصحيح في هذا الأمر أنه لا بد من التفصيل.

فهناك ساحر يكون سحره عبارة عن خفة يد كالحاوي أو ساحر السيرك مثلاً، وكذلك ما يفعله كثير من الشباب على سبيل اللعب، فمثل هذا الفعل يُسأل فيه الساحر عن كيفية ما يفعله، فإن كان عن تقرب للشياطين وتعظيمها وعبادتها أو كان مردداً لكفر اعتقادي، كاعتقاد أن الكواكب والنجوم هي التي تدبر، وأنه يتقرب إليها.

أو إذا كان متضمناً لفعل شركي وكفري ككتابة الآيات القرآنية بالبول أو المنيّ، فمثل هذا لا شك في كفر من يفعله، وكذا من تقرب إلى الشياطين بعباداتٍ كمن يسجد للشياطين، ومن يذبح لهم، فهذا من الشرك الذي لا خلاف فيه بين العلماء.

وأما إذا وصف دخاناً وأدويةً يخلطها على بعضها، وأثناء الدخان يفعل ما يفعل ويخدع الناس بذلك، فهذا لا بد أن يعتقد تحريمه، لأن تحريمه مُجْمَعٌ عليه، فإن استحله كفر، لأنه استحل معلوماً من الدين بالضرورة أنه حرام، فإذا لم يكن معلوماً فلا، فإن كثيراً من الناس اليوم في زماننا لا يدرون أن فِعْل الحاوي لا يجوز، وكذا المشاهدة لساحر السيرك الذي يُظهر ويدّعي فعل ما لا يقدرون عليه من إحياء الأموات أو تقطيع الإنسان دون موت، وقلب الحمامة منديلاً، والمنديل حمامة لا يجوز، فهذا يَدَّعِى أنه يخلق من الجماد حيواناً، فمن اعتقد أنه يملك ذلك كفر أيضاً وهو طاغوت، أما لو قال: هذه خفة يد، وحيل وألاعيب، وأنا لا أقدر على الخلق حقيقة، فهو تلبيس وتمويه على الخلق فمن استحله كفر، فينظر في جهله وعلمه هو ومن يشاهده، والجهل اليوم عظيم جداً، والناس يصفقون في السيرك للسحرة جهلاً منهم.

والآية دلت على أن السحر المُتَعَلَّم من الشياطين كفر ، لأن الله -سبحانه وتعالى- قال : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ )(البقرة: من الآية102)، فالسحر المُتَعَّلم من الشياطين ومن الملكين هاروت وماروت كفرٌ بدلالة القرآن: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)(البقرة: من الآية102)، فهما قبل التعليم يُحذِّران مَن يتعلم منهما مِن أن يكفر، ويخبران أنهما فتنة وامتحان للبشر، وهذا هو الذي نعرفه من قصة هاروت وماروت، وما نعلم زيادة على ذلك من كتابٍ أو سُنةٍ صحيحة، وهناك آثار موقوفة كثيرة من الإسرائيليات التي يجب التوقف فيها.

ونقول: هناك ملكان ببابل اسمهما هاروت وماروت جعلهما الله -عز وجل- فتنة للعباد، وهذا الجَعل جَعْلٌ كوني قدّر الله أن يكون فتنة، أما كونهما طائعين أم عاصيين، ولماذا فعل الله بهما ذلك؟ فالله -تعالى- أعلم، فقد كانا فتنة وكان هناك مَن يذهب مِن الناس إليهما، ويطلب منهما تعلم السحر، فَقَبْل أن يعلماه يقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر -وهذا بخلاف السحرة والشياطين الذين لا يُحذرون من الكفر- فإذا أصرَّ أن يتعلم ويكفر بالله وخرج منه نور الإيمان فعلموه السحر.

وورد أثر بسند جيد، ذكره ابن جرير الطبري: ( عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، حداثة ذلك تسأله عن أشياء دخلت فيها من أمر السحر ولم تعمل به، فقالت عائشة -رضي الله عنها- لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت: إن فعلت ما آمركِ به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبتُ أحدهما وركبَتِ الآخر، فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك ؟ قلت: نتعلم السحر، فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي، فأبيت، وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم أفعل، فرجعتُ إليهما، فقالا: أفعلتِ؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فأرببت وأبيت ، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه: فذهبت فاقشعررت وخفت ، ثم رجعت إليهما ، وقلت : قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا : كذبتِ لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك[3]<3>، فأربيت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور، فبولي فيه، فذهبت إليه فبلتُ فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، فقالا : صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً، وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى، لم تريدي شيئاً إلا كانَ، خذي هذا القمح فابذري فبذرت، وقلت: أطلعي فأطلعت، وقلت: أحقلي، فأحقلت، ثم قلت: افركي ، فأفركت ، ثم قلت: أيبسي، فأيبست، ثم قلت: أطحني، فأطحنت، ثم قلت: أخبزي، فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كانَ سقط في يدي، وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً، ولا أفعل أبداً)[4]<4>.

وهذا يدلنا على أن السحر المُتَعَّلم من هاروت وماروت وكذا المتعلم من الشياطين كفرٌ، ولا يتعلمونه حتى يكفروا، قال -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(البقرة: من الآية102)، وهو ما يُسمونه الصرف، أي صرف قلب الرجل عن المرأة، وعكسه العطف، وهذا الأمر قد يكون بنميمة وغيبة، وقد يكون بتقربٍ من الشياطين تبعاً لنوع السحر.

قال -تعالى-: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ)(البقرة: من الآية102)، أي بإذن الله الكوني، (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)(البقرة: من الآية102)، فلا يقولن أحدٌ بعد ذلك : إنا نتعلم ما ينفع ، فهذا باطل لأن السحر كله ضار بِنَصِّ القرآن ، ولا يقولن أحد : إني أَحُلُ السِّحر عن المسحور ، وأتعلمه لأنفع به المظلومين ، فهذا ضارٌ أيضاً لأن التقرب إلى السحرة والكهنة والشياطين من أعظم الضرر على الدين.

ولا يجوز حل السحر بسحرٍ مثله ؛ لما رواه أبو داود عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنه- قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ النُّشْرَةِ ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) [5]<5>، والنُّشرة المقصودة هنا: حل السحر بسحرٍ مثله.

قال ابن القيم -رحمه الله-: النُّشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:

الأول: حل السحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يُحمل قول الحسن ـ يعني قوله : لا يحل السحر إلا ساحر ـ ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور .

الثاني: (النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائزٌ) ا.هـ ، وقد أنزل الله -عز وجل- لنا ما يكفينا ، مثل المعوذات التي نزلت لأجل علاج السحر ، ونزلت لدفع شر الشياطين ، وعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)[6]<6> ، فإن قال قائل : فإن لم تنفعه هذه المعوذات؟ فنقول: نعوذ بالله من سوء الظن ، فأنت الذي لا تصلح ، فمن يقول: إن كلام الله والدواء الإيماني القرآني لا ينفع ، فهل يظن أن ينفعه الدواء الشيطاني؟

فقد يكون ما به ليس سحراً، بل مرضاً نفسياً، أو وهماً، فإن الله -عز وجل- يقول: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)(النساء: من الآية76)، فكيف تقول أن الشيطان أقوى مما شرعه الله -عز وجل- لنا، فقطعاً هذا كلام باطل.

قال -تعالى-: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية102)، أي من نصيب، أي ليس له في الآخرة من نصيب فيكون كافراً. 



[1]<1> رواه البخاري (1766)، ومسلم (89)، والنسائي (3671)، وابن حبان (5561).

[2]<2> مثل الحاوي في زماننا.

[3]<3> أي: ما زِلتِ مالكة لأمرك وأمرك بيدك.

[4]<4> تفسير الطبري (1/501).

[5]<5> رواه أبو داود (3719)، وأحمد (13721)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3868).

[6]<6> رواه مسلم (2708)، وابن ماجه (3547)، وأحمد (26579 ،26584 ، 26765)، والدارمي (2564) .


موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة