السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

كيف عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود؟ (موعظة الأسبوع) (4) تعامله مع خيانة بني قريظة

كيف عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود؟ (موعظة الأسبوع) (4) تعامله مع خيانة بني قريظة
الأربعاء ١٧ يناير ٢٠٢٤ - ١١:٠٥ ص
81

 

كيف عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود؟ (موعظة الأسبوع) (4) تعامله مع خيانة بني قريظة

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- مَن هم بنو قريظة؟

هم قبيلة من قبائل اليهود الأربعة في المدينة، وهم كغيرهم ممَّن نقضوا العهد قبلهم (بنو قينقاع، بنو النضير)، فالغدر ونقض العهود والمواثيق خُلُق نشأ عليه اليهود لا يفارقونه، كما وصفهم الله -عز وجل-: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 100).

كيف نقضوا العهد؟

- خانوا المسلمين في أصعب الظروف(1)، وتآمروا مع الأحزاب، غير مكترثين بما اتفقوا عليه مع رسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الدفاع عن المدينة ضد كل غازٍ يريد أن يغزوها، فلما جاءت الأحزاب -عشرة آلاف مقاتل- ‌بِقَضَها ‌وقَضيضها -أي: بكل ما فيها- في معركة الأحزاب ما كان من أفاعي الدس والغدر والخيانة إلا أن خانوا العهد، وخالفوا الاتفاق، فبدلًا من أن ينصروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- حسب الاتفاق، قاموا بنصرة الأحزاب وشاركوهم في الحرب ضد المسلمين، فكان الموقف على المسلمين شديدًا عصيبًا؛ لأن المسلمين لم يكن يحول بينهم وبين يهود بني قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، لا سيما وأن ذراري المسلمين ونساءهم على مقربة من هؤلاء الغادرين بدون منعة، قال -تعالى-: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (الأحزاب: 10، 11).

- إن ما فعله اليهود مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمَّى في كل المواثيق والأعراف "خيانة عظمى": (معلوم أن الدول في هذا العصر مجمعة على قتل الجاسوس الذي ينقل الأخبار للدول المعادية ويعينها على دولته، وأين فعل جاسوس واحد خان وطنه من خيانة قبيلة يهود بني قريظة للعهد، مع ما كانوا يتطلعون إليه من إبادة المسلمين رغم إحسانهم إليهم؟!).

كيف عاملهم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

- لما وصل خبرهم بنقض العهد، أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة من أصحابه وقال لهم: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟"، فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكونون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: "مَن رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمدٍ ولا عقد؟!"، فأقبل الصحابة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبروه أنهم على غدر كغدر "‌عضَل ‌وقَارَة" بأصحاب الرجيع، فتقنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثوبه حين تأكد من غدرهم، واضطجع ومكث طويلًا يفكر في هذا الوضع الحرج (حصار الأحزاب من الخارج، وخيانة قريظة من الداخل).

- النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يتضرعون إلى الله القوى العزيز الحكيم، فيتولى الله هزيمة الأحزاب ويردهم شراذم متفرقين: (وَلَمَّا ‌رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا . مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب: 22- 25).

- النبي -صلى الله عليه وسلم- يرجع إلى المدينة ويتجهز لمواجهة خونة قريظة؛ إلا أن الأمر من الله كان الإسراع بالخروج: قالت عائشة -رضي الله عنها-: لما رجَع رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- من الخَندَقِ وضَع السلاحَ واغتسَلَ، فأتاه جبريلُ -عليه السلامُ- وهو يَنفُضُ رأسَه من الغُبارِ، فقال: وضَعْتَ السلاحَ، واللهِ ما وضَعْتُه، اخرُجْ إليهِم، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فأينَ؟) فأشار إلى بني قُرَيظَةَ. (متفق عليه).

- الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمر بسرعة الخروج إليهم قبل أن يتحصنوا بالحصون ويأخذوا العدة لذلك، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: (لَا ‌يُصَلِّيَنَّ ‌أَحَدٌ ‌الْعَصْرَ ‌إِلَّا ‌فِي ‌بَنِي ‌قُرَيْظَةَ) (متفق عليه). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا ‌فِي ‌زُقَاقِ ‌بَنِي ‌غَنْمٍ، مَوْكِبَ جِبْرِيلَ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ" (رواه البخاري).

- أسرع ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين إلى يهود بني قريظة، وحاصروهم في حصونهم خمسًا وعشرين ليلة، حتى أتعبهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم يجدوا مفرًّا إلا الاستسلام، والنزول على حكم الله ورسوله: قال أصحاب السِّيَر: "فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر فأشار إليهم أنه الذبح. قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ- وكان حليفًا لهم، فظنوا أن يحابيهم ويخفف الحكم عليهم- فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سعد بن معاذ، فأُتِي به على حمار... وحفَّ به قومه يحاولون الشفاعة في بني قريظة، فقالوا: يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية، ومَن قد علمت، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئًا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا مِن دُورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْزِلُوهُ"، فأنزلوه، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "‌إِنَّ ‌هَؤُلَاءِ ‌نَزَلُوا ‌عَلَى ‌حُكْمِكَ"، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"، فقَتَل -صلى الله عليه وسلم- رجالهم وكانوا بين ستمائة وتسعمائة، إلا مَن أسلم منهم حقن إسلامه دمه، وسبيت نساؤهم وذرياتهم، وقسمت في المسلمين، وأنزل الله: (‌وَأَنْزَلَ ‌الَّذِينَ ‌ظَاهَرُوهُمْ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌الْكِتَابِ ‌مِنْ ‌صَيَاصِيهِمْ ‌وَقَذَفَ ‌فِي ‌قُلُوبِهِمُ ‌الرُّعْبَ ‌فَرِيقًا ‌تَقْتُلُونَ ‌وَتَأْسِرُونَ ‌فَرِيقًا . وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) (الأحزاب: 26، 27)(2). (انظر: السيرة النبوية لابن هشام).

- هكذا تم استئصال أفاعي الشر والغدر والخيانة الذين نقضوا الميثاق المؤكد وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة يمرون بها في حياتهم، فاستحقوا الإعدام والقتل بحكم الله -عز وجل- فيهم.

خاتمة: شدة عداوة يهود للإسلام والمسلمين:

- في هذه الوقعة ظهر من بعض اليهود تجلد وجسارة في مواجهة القتل، وما ذلك إلا من شدة العداوة والضغن على الإسلام والمسلمين.

- كان مِن جملة مَن قُتِل مع بني قريظة "حيي بن أخطب"-الذي كان يقر بنبوة نبينا، لكنه أبى الدخول في الإسلام!-، فإنه كان دخل مع بني قريظة في حصنهم وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أتُي به قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ‏؟"، قال حيي: لقد ظهرت علي، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عُنُقه لعنه الله. (سيرة ابن هشام).

- واستوهب ثابت بن قيس -رضي الله عنه- الزبير بن باطا وأهله وماله، وكانت للزبير يد عند ثابت، فوهبهم له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليَّ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك، فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة! فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود" (سيرة ابن هشام).

- إنَّ عَدَاءَ الْيَهُودِ للإِسْلامِ وَأَهْلِهِ لَيْسَ بِدْعًا وَلا حَدَثًا، بَلْ عَدَاءٌ قَدِيمٌ وَحِقْدٌ دَفِينٌ: قال -تعالى-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة: 82).

- وتِلْكَ الْعَدَاوةُ لَيْسَتْ جُغْرَافِيَّةً وَلا تَارِيخِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ عَدَاوَة دِينِيَّة عَقَدِيَّة: قال الله -تعالى-: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: 120).

- إن هذه الغزوة وغيرها من الوقائع والأحداث تكشف لنا خبث اليهود وحقدهم، ونقضهم للعهود ومخالفتهم للاتفاقيات؛ فهؤلاء قوم لا يفهمون لغة الحوار ولا السلام، وإنما يفهمون لغة واحدة هي لغة السلاح والقوة، فالواجب على المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، كما أمر الله -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60).

فاللهم عليك باليهود ومَن عاونهم، وانصر المسلمين عليهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لقد نقض بنو قريظة العهد في أصعب موقف، وأشد ساعة، ولو أن مظاهرة اليهود للمشركين، وخيانتهم للمسلمين تمت على ما أرادوا، ودخل المشركون المدينة، وتمكن اليهود من نساء المسلمين وأطفالهم لأبادوهم عن بكرة أبيهم؛ لكن سلَّم الله -تعالى- المؤمنين، ورد المشركين، وأنزلت العقوبة الشرعية بالخونة الغادرين، والمسلم لا يجد حرجًا في نفسه من حكم الله -تعالى-؛ فإنه يتذكر حال اليهود وهم يُقتلون، حال المسلمين لو تمكَّن منهم المشركون بسبب خيانة اليهود، ولمَن في قلبه أدنى حرج من ذلك عبرة وعظة فيما يفعله اليهود في أهل فلسطين، من الغدر والخيانة، ونقض العهد، وقصد الآمنين والنساء والأطفال بالقتل والترويع، وهدم الدور على أصحابها، ولا يكاد يمر يوم دون أن يقتلوا نساءً وأطفالًا. فتبًّا لقوانين وضعية توجد حرجًا في قلوب بعض المسلمين من شريعة الله -تبارك وتعالى-، ونعوذ بالله تعالى من الزيغ والضلال، ومن الاستدراك على الشريعة الغراء، ونسأله -سبحانه- أن يرزقنا الرضا والإذعان، والقبول والتسليم، إنه سميع قريب.

(2) لقد كان بإمكان هؤلاء الجبناء أن يتحملوا الحصار لمدة طويلة، وذلك لمناعة حصونهم وقوتها وتوفر المواد الغذائية والآبار فيها، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القاسي والجوع الشديد، وهم في العراء خاصة مع شدة التعب الذي اعتراهم جراء مواصلة الأعمال الحربية في غزوة الأحزاب؛ إلا أن الله قذف في قلوب اليهود الرعب، ودبَّ في نفوسهم الخوف وأخذت معنوياتهم تنهار؛ خاصة بعد أن تقدَّم علي والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- فصاح علي: "يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم" (سيرة ابن هشام).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة