الأحد، ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

8- لبيك وسعديك

8- لبيك وسعديك
الأحد ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧ - ١٣:٢٠ م
8

8- لبيك وسعديك

كتبه ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) (رواه مسلم).

في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ هذه التلبية من غير محرم ولا تختص بحال، فيمكن أن يقولوها الحلال، ولا تختص بزمن، فكل يوم يمكن أن تقول هذه التلبية ليس فقط في زمن الحج أو أشهر الحج، ولا تختص بمكان كقرب الميقات أو عندما تكون في المواقيت، ولذلك كان الصحيح أن التلبية ذكر مشروع يمكن أن يقال من الحلال -بمعنى: غير المحرم قال الإمام أحمد: "لا بأس بأن يلبي غير المحرم".

وهذه التلبية كنز عظيم يفجر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله -سبحانه-، ويوقظ حاجة الإنسان إلى الشعور بأن الله -سبحانه وتعالى- يناديه ويريده هو، فإن الإنسان الصغير الضعيف الفقير المحتاج الذي لا يشغل من الزمان ولا من المكان شيئًا يذكر، بل وجوده كالهباء المنثور، فعمره يمتد 60 أو 70 سنة وما قبل ذلك ملايين السنين وما بعد ذلك من الخلود ما لا نهاية له، ولو أراد أن يعرف حجمه في المكان؛ فليخرج إلي البحر؛ ليعرف حجم الإنسان في الأرض، وإذا اتسع نظره أكثر؛ فليعرف حجم الأرض نفسها بالنسبة لما حولها من الأجرام السماوية الأخرى في المجموعة الشمسية، كم تبلغ الأرض؟، كم تبلغ المجموعة الشمسية في المجرة؟ وكم تبلغ المجرة بالنسبة لملايين المجرات؟ هذه المجرات كلها هي السماء الدنيا، فما بالك بالسماوات الأعلى؟! فما بالك بالكرسي الذي وسع السماوات والأرض؟! (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) (البقرة:255)، فما بالك بالعرش الذي الكرسي بالنسبة له كحلقة في فلاة؟

فإذا استشعر الإنسان أن الله -سبحانه- الخالق العلي الكبير العظيم الغني الأول الآخر الظاهر الباطن القوي العزيز يريده ويناديه على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة، فأنت تقول: لبيك أي: أنا أجيبك يا رب، فالله -عز وجل- يريد الإنسان لعبادته ومحبته، واصطفاه من بين خلقه لنوع خاص من العبودية، وأوجده في وسط المخالفات؛ ليعرفه ويعبده، حينما نتدبر في ما حولنا من أنواع كثيرة من العبودية كعبودية السماوات والأرض -مثلاً- فهي تعبد الله طائعة منقادة ولم تكلف (قَالَتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال -عز وجل-: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ) (الأحزاب:72)، فهذه الكائنات مسخرة تعبد الله -عز وجل-: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) (الإسراء:44)، فالكون هائل وواسع في السماوات والأرض، كلها تسبح الله وتعبده بدون أن تعترض ولو ذرة منها، ثم عبودية الملائكة عبودية بإرادة منها لا تتوجه إلا إلى الخير، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

لكن الإنسان وكذا المؤمن من الجن طـُلبت منهم عبودية خاصة، عبودية في وسط مخالفات، فهو موجود في بيئة بها شهوات ورغبات محرمة ونوازع داخلية تنازعه، فمخالفات شياطين الإنس والجن بأعمالهم ومكرهم وكيدهم تريد أن تصد الإنسان عن طاعة الله، وهو -سبحانه- اجتبى الإنسان وخصه بأعلى أنواع التكريم، وأمره ونهاه ودعاه إليه في دار السلام وهداه الصراط المستقيم، فأنت أيها المؤمن كنت مرادًا حتى تكون مريدًا مُخلِـصًا، كنت مـُرادًا من الله (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه:41)، كما قال لموسى -عليه السلام وكل المؤمنين اصطنعهم الله -عز وجل- لنفسه بدرجات مختلفة.

فالله أخلصك لعبادته حتى تخلـًُص له عبادتك، فأُخلصت من عند الله فأَخلصت لله، كنت قبل وجودك من أهل قبضة اليمين وعرفك الشيطان فاستثناك من الإغواء حين قال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص:83)، أنت من المُخلَصين حتى تكون من المُخلِصين.

ربك يناديك فما أجمل وما أعظم وما أحلى أن تقول: لبيك ربي، أنا ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني، وقد قال إبراهيم -عليه السلام-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات:99).

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (رواه البخاري)، فهي هجرة بالقلب وسفر إلى الله -عز وجل فهي -إذن- ليست -فقط- هجرة بالبدن، بل بالقلب أولاً، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عُبَادَةٌ فِي الْهَرْجِ) -أي: الفتن- (كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) توضيح لهذا المعنى، فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه -صلى الله عليه وسلم لأنها هجرة بالقلب إلى سنته وطريقته في عبادة الله، فهل نلج وندخل باب هذا الفضل العظيم؟

فاتتنا الهجرة بالبدن إلى النبي -عليه الصلاة والسلام لكن يمكن أن نلحق بركب المهاجرين، تخيل أن تكون ضمن المهاجرين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم تنال ثواب المهاجرين الذين سبقوا الأنصار، نحن نضيق بالفتن مع أن الفرصة فيها عظيمة، فهل نغتنمها؟.

(لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) ليست الإجابة لله -سبحانه وتعالى- مرة واحدة فحسب ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة، وهناك تفسيران في معنى التلبية "لبيك"، فالأول بمعنى: إجابة مرة بعد مرة، وهذا هو المشهور، والمعنى الثاني: من لبى بالمكان يعني: أقام، وكلا المعنيين صحيح، فهي إجابة بعد إجابة، فهي مستمرة، وإقامة بعد إقامة على طاعته، ومساعدة بعد مساعدة لأمره، والمقصود بالمساعدة في (سَعْدَيْكَ) أي: أنا مساعد في أمرك، أي: أكون في أمرك، والكون كله في أمر الله وخدمته، وهي ليست بمعنى المعاونة لله -تعالى الله أو أنه يحتاج إلى معين -حاشا لله-، لكن (سَعْدَيْكَ) تعني: أنا في إسعاد أمرك، والإسعاد معناه: أن يكون في الخدمة والطاعة، وإن كان لفظ الخدمة -أن يـُخدم الله لم يرد في الكتاب والسنة، فنختار عنه لفظ العبادة والطاعة والانقياد لأمره -سبحانه- مرة بعد مرة.

أي أن المؤمن قد أعلن الإجابة وواظب عليها وأقر بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، قال: آمنت بالله ثم استقام كما أخبر -سبحانه- عن عباده المؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

إن القضية قضية الالتزام المستمر، وليست إعلان مبدأ ثم يظل الإنسان بعيدًا عنه، بل لا بد أن يظل مواظبًا، والاستمرار في الطاعة أشق على أكثر النفوس من البداية، فالسير على طريق الله طول الحياة هو صفة أهل الإيمان، وهذه التلبية يحتاج إليها المؤمن دائمًا، ولذا؛ شرعت في هذا الدعاء كما شرعت في الحج والعمرة، وهذا الحديث دليل على مشروعية ذلك، وهي من الأذكار العظيمة التي تعرف العبد حقيقة السلعة التي معه.

أنت، ما سلعتك؟، سلعتك هي نفسك (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111)، عندما تستشعر أن الله أرادك ويناديك، وأنت تقول له: أنا أجيبك يا رب؛ تعرف حقيقة السلعة التي معك، فلتضنَّ بها ولتبخل أن تبيعها لغير الله بالثمن البخس.

إن شعور العبد بأن الله أراده يجعله يكاد يذوب حبًّا وشوقًا لله -سبحانه- وانقيادًا وذلاً، يجعله مجيبًا على الفاقة، أي: مجيبًا لأمره -سبحانه- مستشعرًا شدة فقره وفاقته إلى هذه الإجابة، وليس معنى ذلك أنه يجيب رغمًا عنه فيرغم نفسه على أن يجيب ونفسه لا تطاوعه، بل هو يشعر أن نفسه هي التي تطلب الذهاب، إنها -إجابة الله-  كطعامه وشرابه ونفسه، بل أشد من ذلك، كما أنك تأخذ نفس الهواء، لماذا تأخذه؟ لأنك محتاج للهواء، لأنك إن لم تتنفس؛ تمت، لا تستطيع أن تتحمل، ولماذا نسرع مهرولين إلى الطعام وقت الإفطار؛ لأننا محتاجون للطعام ومحتاجون للشراب، كذلك الإنسان محتاج للقرب من الله، محتاج لأن يجيب أمر الله -عز وجل ولذلك؛ فإن أهل الجنة يتمتعون بالتسبيح، (يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ) (رواه مسلم).

ونذكر كلمة بعض التابعين يقول: "اللهم إن كنت تأذن لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي أن أصلي في قبري فهو يدعو الله أن يصلي في قبره، والصحيح أن هناك صلاة في القبور فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه رأى موسى يصلي في قبره، والصحيح أنها نوع من النعيم الذي يكون في القبر من نعيم القبر، وهي ليست على سبيل التكليف، وإنما على سبيل التنعم، وما يقوله البعض أنه خاص بموسى فالصحيح أنه ليس خاصًّا، فإن الحديث الصحيح عند ابن حبان في صفة سؤال القبر أن المؤمن تمثل له الشمس قد أوشكت على الغروب، فيأتيه الملكان فيقعدانه ويسألانه، (فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ-) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني)، فالملائكة وعدته بأنه سيفعل، فهذا دليل على أن هناك من يصلي في قبره.

ففرق كبير بين إجابة تجر فيها نفسك خلفك، ولا تطاوعك نفسك للإجابة، وبين إجابة على الفاقة -على الحاجة إليها-.

ما معنى أن تستشعر أنك محتاج للإجابة؟، هو أن تستشعر أن ربنا يريدك أنت -وأنت وحدك- من وسط كل هذه الدنيا، وتستشعر أنك صغير جدًّا والخالق العلي الكبير يريدك أنت ويجعلك مخلـَصا له، فأي شرف للإنسان؟، هذا يجعله يسارع بهذه الإجابة محققًا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بالإجابة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بالفقر والفاقة إلى الله -عز وجل يستشعر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بأن يجيب أمر الله، وأنه في أثناء هذه الإجابة مستعين بالله محتاج إلى أن يعبد الله ويسأل الله أن يعيننه على ذلك.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بالفاقة والفقر إلى الله إلهًا معبودًا في المقام الأول، أي: لا تستعين به على قضاء حوائجك، وعلى دفع عدوك وعلى إزالة الضرر وعلى جلب المنافع فقط، فالخلق كلهم مفتقرون إلى الله ربًّا خالقًا رازقًا، فهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويكون عندهم أولاد وأموال، هم يريدون كل هذه الأشياء، والمؤمن معهم في هذا، والله الذي بيده الأمر كله، لكن المؤمن يستعين به -في المقام الأول- على عبادته، يستعين به ليكون إلهه ومعبوده، يحتاج لأن يركع له، يحتاج لأن يسجد له، يحتاج لأن يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه، فأي منة أجل من هذا، وهل نستحق كل هذا العطاء أنما هو محض الجود والكرم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة