الأحد، ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

فضل الشهيد وأجره في القرآن الكريم

فضل الشهيد وأجره في القرآن الكريم
الثلاثاء ٢٣ يناير ٢٠٢٤ - ١٠:٢٢ ص
58

فضل الشهيد وأجره في القرآن الكريم

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد وردت الآيات القرآنية العديدة في الأمر بالجهاد في سبيل الله -تعالى-، وفي بيان فضل هذا الجهاد، وبيان ما رتبه الله -تعالى- من الفضل والثواب على الجهاد والرباط في سبيله، والمجاهد في سبيله -تعالى- له إحدى الحسنيين:   

- إما نصر الله -تعالى- له في الدنيا، وهذا إعلاء من المجاهد لكلمة الله -تعالى- في الأرض، وانتصار لدينه -تعالى-، وتمكين له في الأرض، وهذا من أعظم القرب إلى الله -تعالى-، قال الله -تعالى-: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:74)، مع ما يصاحب ذلك من فرحة النصر وحلاوته، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌هَلْ ‌أَدُلُّكُمْ ‌عَلَى ‌تِجَارَةٍ ‌تُنْجِيكُمْ ‌مِنْ ‌عَذَابٍ ‌أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف: 10-13).   

 - وإما شهادة ينالها المجاهد بالقتل في ميدان الحرب في سبيل الله -تعالى-، وهي كرامة لمن يحوزها، وأي كرامة! فلا عمل أحب عند الله -تعالى- من أن يجود المسلم بنفسه في سبيله -تعالى-؛ جاء في الحديث عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (رواه البخاري وأبو داود والترمذي واللفظ).

معنى الشهيد لغةً واصطلاحًا:

يقال: شهد الشيء فهو شاهد، أي: حضره. قال -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة:185)، وقال -تعالى-: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِين) (النور:2)، وقال -تعالى- في سورة النمل: ?مَا شَهِدْنَا ‌مَهْلِكَ ‌أَهْلِهِ) (النمل: 49)، أي: ما حضرنا. وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (الفرقان:72)، أي: لا يحضرونهم بنفوسهم. وشهده شهودًا أي: حضره، فهو شاهد. وقوم شهود أي: حضور. واستشهد فلان فهو شهيد. والمشاهدة: المعاينة. والشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة. فإذا أضيف العلم إلى الأمور الظاهرة؛ فهو شهيد. واسم الشهيد مأخوذ من الشهادة أو من المشاهدة.

- فإن كان من الشهادة، فهو شهيد بمعنى مشهود عليه، ومشهود له بالحسنة. ويجوز أن يكون (فعيلًا) بمعنى (فاعل)؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (الحج:78). أي: تشهدون عليهم.

- وإن كان من المشاهدة، فهو شهيد بمعنى (فعيل) بمعنى فاعل أيضًا؛ لأنه يشاهد ملكوت الله -تعالى- ويعاين ما لا يشاهده غيره. ويكون أيضًا بمعنى (مفعول) وهو من المشاهدة أي: أن الملائكة تشاهد قبض روحه والعروج بروحه. والأولى القول بأنه يكون (فعيلًا) بمعنى (مفعول)، ويكون معناه: مشهود له بالحسنة. (راجع في ذلك: لسان العرب لابن منظور، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني).

وقد نقل الإسلام لفظة الشهيد من مدلول اللفظ اللغوي المجرد الذي هو كما قدمنا: الحضور أو العلم أو المشاهدة، إلى معنى آخر اصطلاحي هو: أن الشهيد: مَن قُتِل في سبيل الله صابرًا محتسبًا، مقبلًا غير مدبر، فالشهيد اصطلاحًا: هو المقتول في حربٍ مع الكفار في سبيل الله. والجمع: شهداء.

وتقييد المصطلح بأن يكون القتال في سبيله -تعالى-؛ لحديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: ‌يَا ‌رَسُولَ ‌اللهِ، ‌الرَّجُلُ ‌يُقَاتِلُ ‌لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ أَعْلَى، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (متفق عليه).

وتقييده بأن يكون صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر؛ فللحديث الذي رواه أبي قتادة -رضي الله عنه- وفيه: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ ‌وَأَنْتَ ‌صَابِرٌ ‌مُحْتَسِبٌ، ‌مُقْبِلٌ ‌غَيْرُ ‌مُدْبِرٍ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَعَمْ، ‌وَأَنْتَ ‌صَابِرٌ ‌مُحْتَسِبٌ، ‌مُقْبِلٌ ‌غَيْرُ ‌مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ -عليه السلام- قَالَ لِي ذَلِكَ) (رواه مسلم).

وواضح من ذلك: أن مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وليس ثمة شيء آخر غير ذلك. وقد يتضمن ذلك الدفاع عن الوطن، والعشيرة والقوم، على أن يكون هذا المعنى بارزًا في نفسه متحققًا منه بحيث يكون منطلقه ابتداءً من مفهوم إعلاء كلمة الله -تعالى- وإعزاز دينه؛ قال -تعالى-: (‌أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الْمَلَإِ ‌مِنْ ‌بَنِي ‌إِسْرَائِيلَ ‌مِنْ ‌بَعْدِ ‌مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة: 246).

وقد ورد في القرآن الكريم فضل وأجر الشهيد مجملًا ومفصَّلًا في آيات عديدة، ففي بيان فضل الشهيد وأجره مجملًا: قال الله -تعالى-: (وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون) (آل عمران:157)، وقال -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌قُتِلُوا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌فَلَنْ ‌يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد: 4-6)، وقال -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌هَاجَرُوا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌ثُمَّ ‌قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) (الحج: 58-59). وقال -تعالى-: (‌فَالَّذِينَ ‌هَاجَرُوا ‌وَأُخْرِجُوا ‌مِنْ ‌دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران: 195)، وقال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) (التوبة: 111)، وقال -تعالى-: (?‌وَمَنْ ‌يُطِعِ ‌اللَّهَ ‌وَالرَّسُولَ ‌فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69)، وقال -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌بِاللَّهِ ‌وَرُسُلِهِ ‌أُولَئِكَ ‌هُمُ ‌الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (الحديد: 19).

وفي الحديث عن أنس -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، ‌يَتَمَنَّى ‌أَنْ ‌يَرْجِعَ ‌إِلَى ‌الدُّنْيَا ‌فَيُقْتَلَ ‌عَشْرَ ‌مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) (متفق عليه).

أما بيان فضل وأجر الشهيد على التفصيل:

فيعد قول الله -تعالى-: (?‌وَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌الَّذِينَ ‌قُتِلُوا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 169-171)، أوسع المواضع التي بَيَّنت أجر الشهيد في القرآن الكريم، وفي هذه الآيات بيان ما للشهيد من أجر وثواب من وجوه، منها:

1- إن الشهيد بعد قتله حي: قال الله -تعالى- عن الشهداء: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، ويؤكده قوله -تعالى- في نفس الآية: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ)، والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام الساعة، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة؛ فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة، فإذا كان ظاهر الأمر أمامنا أن الشهداء قد ماتوا فإن حقيقة الأمر -على خلاف ما نراه- أنهم أحياء.  

وقد أكَّد الله -تعالى- ذلك في آية أخرى، فقال -تعالى-: (وَلَا تَقُولُوا ‌لِمَنْ ‌يُقْتَلُ ‌فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154)، فحقيقة الأمور لا يعلمها إلا الله -تعالى-، وهناك حقيقة تتعلق بالشهيد أنه قد رفع إلى منزلة عالية فوق كل تصور وإدراك، وإن كنا لا نشعر بها؛ فالحس الإنساني والشعور الآدمي أضعف وأقصر من أن يدرك تلك الحقيقة وهذا الأجر؛ لذا قال -تعالى-: (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، فإذا كان كل من مات من غير الشهداء هو في قبره في مرحلة برزخية بين الحياة الدنيا وبين حياة الآخرة، لها خصائصها؛ فللشهيد بين الحياة الدنيا وبين حياة الآخرة حياة برزخية، لكن لها خصائصها التي تختلف تمامًا عن غيرها، فـ(الناس يموتون فتفارق أرواحهم أجسادهم، ثم يدرجون في قبورهم، فتتحلل أجسادهم إلى ترابيتها وعناصرها الأولية، ثم يكونون بين صالح وطالح، أما الصالحون فإنهم في قبورهم في روضة من رياض الجنة، وأما الطالحون من المشركين والكافرين ومَن لف لفهم ونسج على منوالهم، فإنهم في رموسهم (أي: قبورهم) في حفرة من حفر النار)، إلى نفخة الصور، فإذا هم جميعًا من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ثم يقفون بين يدي ربهم مسئولين، فمن أخذ كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أخذ كتابه بشماله فسوف يحاسب حسابًا عسيرًا، لكن (هذه الرقدة لا يعانيها ولا يعايشها الشهيد مهما كان لونها، بل هو حي حياته الأبدية خالدة، وانتقاله من الدنيا إلى الآخرة تختلف من حيث الجزاء عن غيره من الناس، إلا الصورة الحتمية الأولى، وهي مفارقة الروح للجسد؛ لأنها القانون العام والناموس الشامل)، قال الله -تعالى-: (‌كُلُّ ‌نَفْسٍ ‌ذَائِقَةُ ‌الْمَوْتِ) (آل عمران: 185).

أما (الحكم اللفظي الذي ينطق به الأحياء على من يفارق الدنيا، وهو قولنا: قد مات فلان... ينبهنا الله -تعالى- إليه في حق الشهيد، فيقول: (وَلَا تَقُولُوا ‌لِمَنْ ‌يُقْتَلُ ‌فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154)، فلا يصح القول بأنهم أموات... بل شهداء)، (ولا يشهد إلا الحي).

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح (كتاب الجهاد) من رياض الصالحين للنووي: (وهذه الحياة البرزخية لا نعلم بها وليست كحياتنا، ولهذا قال -تعالى-: (وَلَا تَقُولُوا ‌لِمَنْ ‌يُقْتَلُ ‌فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154)، حياة ما يعلم بها، يعني لو فتحت على قبره لوجدت الإنسان ميتًا، لكنه عند الله يرزق، يأكل من الجنة بكرة وعشية) (انظر: شرح رياض الصالحين، لمحمد بن صالح العثيمين، المجلد الثالث).

إنها حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس، بها يرزقون ينعمون، ولكن لا نعلم حقيقتها، ولا حقيقة الرزق الذي يكون بها، ولا نبحث عن ذلك؛ لأنه من عالم الغيب الذي نؤمن به، ونفوض الأمر فيه إلى الله -تعالى-.

قال بديع الزمان النورسي -رحمه الله-: (إن للشهداء طبقة من الحياة فوق حياة أهل القبور بنص القرآن، نعم... إن الله -تعالى- يحسن إلى الشهداء من كمال كرمه في عالم البرزخ بحياة تشبه الحياة الدنيا، ولكنها حياة بغير كدر ولا ألم؛ ذلك لأنهم ضحوا بحياتهم الدنيا في سبيل الحق، وإنهم لا يعلمون أنهم ماتوا، ولكن يعلمون أنهم ارتحلوا إلى عالم أحسن، فيتنعمون بكمال السعادة ولا يشعرون بما في الموت من ألم الفراق.. وإن أهل القبور وإن كانت أرواحهم باقية؛ إلا أنهم يعلمون أنهم ماتوا، فلا يصل ما يذوقون من اللذة والسعادة في عالم البرزخ إلى درجة لذة الشهداء).

2- إن الشهيد عند ربه الآن يرزق: قال الله -تعالى- عن الشهداء: (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، فإذا كان الناس في الدنيا يرزقون، فليس رزق الدنيا كرزق الآخرة في الجنة -بعد البعث والنشور- لمن يناله ويستحقه، ولكن رزق الشهيد يسبق رزق غيره من الصالحين؛ إذ هو عند ربه بعد قتله شهيدًا ضيفًا من حيث النزل والإكرام، يرزق من الخيرات من نعيم لا ينقطع ولا يزول حتى قيام الساعة والبعث والنشور، فالشهيد عند ربه ضيفًا مكرمًا؛ لذا فالرزق مفتوح، والعطاء غير ممنون، متدفق من غير انقطاع، موصول بغير انتظار، حاضر من غير سعي، سهل من غير شقاء، بلا حدٍّ أو كمية، لا يخضع هذا الرزق للضرورة والاقتضاء، ولكن للتمني والاشتهاء.

إن كل قطرة دم تشهد للشهيد، وتأتي على ما سلف وانقضى في حياته، فيغطي بدنه اللون الأحمر، اللون لوم الدم، ولكن الريح ريح المسك؛ هذا للبدن، أما الأرواح فكما جاء في الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في صفة الشهداء: (‌أَرْوَاحُهُمْ ‌فِي ‌جَوْفِ ‌طَيْرٍ ‌خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، فأهل القبور وإن كانت أرواحهم باقية بعد الموت، وقد يتنعم المؤمنون منهم بنعيم في القبر في عالم البرزخ، لكن لا يبلغ نعيمهم هذا نعيم الشهداء بعد الموت.

فائدة: أورد ابن كثير في تفسيره: حديث كعب بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا ‌نَسَمَةُ ‌الْمُؤْمِنِ ‌طَائِرٌ ‌يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، ثم قال: (وفي هذا الحديث: أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، أما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عمومه المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها). وقد أورد ابن القيم هذا الحديث وتكلَّم عليه في كتابه: "الروح".

3- إن الشهيد يتنعم الآن بفرحة غامرة: قال الله -تعالى-: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، والفرحة حالة عالية من الرضا النفسي؛ فما بالك إذا كانت فرحة الشهيد تلك بين يدي الله -تعالى-؟! وما بالك إذا كان سببها رضا الله -تعالى- عن هذا الشهيد، والباعث لها فضل الله ونعيمه على الشهيد؟! فلا شك أنها فرحة غامرة تملأ كل جنبات النفس، ولا تضاهيها أي فرحة أخرى، وهي فرحة دائمة، لا يتسرب الحزن أو الأسى للنفس بعدها أبدًا.

إن رزق الدنيا مهما زاد وكثر وكان وفيرًا، فسيأتي عليه زمان قطعًا ويزول وينتهي، أما رزق الآخرة هذا فلا ينتهي، (‌مَا ‌عِنْدَكُمْ ‌يَنْفَدُ ‌وَمَا ‌عِنْدَ ‌اللَّهِ ‌بَاقٍ) (النحل: 96)، بل هو في ازدياد، قال الله -تعالى-: (‌وَيَزِيدُهُمْ ‌مِنْ فَضْلِهِ) (النساء: 173).

 4- إن الشهيد يستبشر بالذين من بعده: وفي اللغة: بشرته: أخبرته بسارٍّ بسط بشرة وجهه. وبشر فلانًا بالأمر: فرحه به. واستبشر: إذا وجد ما يبشره من الفرح. قال -تعالى-: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، وقال -تعالى-: (‌وَجَاءَ ‌أَهْلُ ‌الْمَدِينَةِ ‌يَسْتَبْشِرُونَ) (الحج: 67). وقال الله -تعالى- في فضل الشهداء: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

فالشهداء يستبشرون، وهم في نعيمهم ينتظرون مَن بعدهم مِن المجاهدين، ويستعدون ويتهيؤون لهم ليقتربوا من مصاف الشهداء، ويتبوؤون معهم الصدارة؛ فالشهداء وقد عاينوا ما هم فيه من النعيم ورأوا قلة الحياة الدنيا، وتبيَّن لهم بلا شك أنه مهما تنعم المرء في الحياة الدنيا فلن يبلغ منزلة الشهيد عنده -تعالى-؛ لذا يتمنون أن يعلم مَن ورائهم مِن أهل الدنيا ما هم فيه. فلسان حال الشهداء يقول: ألا خوف عليكم يا معشر أبناء الحياة الدنيا من لحظة الفراق... من الشهادة في سبيل الله... فما عند الله خير وأبقى.

فليعلم المجاهد في سبيل الله -تعالى- وهو يكابد في ميدان القتال، أنه لا خوف عليه من ترك الدنيا بالموت، ولا في القدوم على الآخرة، ولا يحزن على ما قد يكون فاته من نعيم الدنيا وأهلها ومقتنياتها، ولا يخشى من آلام القتل وشدته، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌مَا ‌يَجِدُ ‌الشَّهِيدُ ‌مِنْ ‌مَسِّ ‌القَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: حديث حسن صحيح). وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌وَالَّذِي ‌نَفْسُ ‌مُحَمَّدٍ ‌بِيَدِهِ ‌لَوَدِدْتُ ‌أَنْ ‌أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ) (رواه مسلم).

وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌لَمَّا ‌أُصِيبَ ‌إِخْوَانُكُمْ ‌بِأُحُدٍ ‌جَعَلَ ‌اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ، وَمَشْرَبِهِمْ، وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا، أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ)، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (آل عمران: 169) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

قال ابن كثير في قوله -تعالى-: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): (أي: الشهداء الذين قُتِلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه ورائهم)، وذكر ابن كثير في تفسيره: أنه قد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قُتِلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم، قال أنس: "وَنَزَلَ ‌فِيهِمْ ‌قُرْآنٌ ‌قَرَأْنَاهُ ‌حَتَّى ‌رُفِعَ: أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا" (انظر: تفسير ابن كثير).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة