السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (150) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (2)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (150) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (2)
الثلاثاء ٢٣ يناير ٢٠٢٤ - ١٠:٢٤ ص
39

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (150) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38).

قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا) الآيات: "يخبرهما يوسف -صلى الله عليه وسلم- أنهما مهما رأيا في نومهما من حلم، فإنه عارف بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال:  (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال مجاهد: يقول:  لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما. وكذا قال السدي. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما أدري لعل يوسف -عليه السلام- كان يعتاف وهو كذلك؛ لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال: إذا جاء الطعام حلوًا أو مرًّا اعتاف عند ذلك. ثم قال ابن عباس: إنما عُلِّم فَعَلَّم . وهذا أثر غريب. (قلتُ: العيافة: زجر الطير لمعرفة الأمور الغيبية، وهي من أفعال الكهنة ونحوهم، ولا يجوز أن يُنسَب ذلك إلى الأنبياء، والإسناد ضعيف جدًّا إلى ابن عباس، فلا يصح)، ثم قال: وهذا إنما هو من تعليم الله إياي؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابًا ولا عقابًا في المَعَاد.

(‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) يقول: هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهكذا يكون حال مَن سلك طريق الهدى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين؛ فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلمه، ويجعله إمامًا يقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد.

(مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) هذا التوحيد، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) أي: أوحاه إلينا، وأمرنا به. (وَعَلَى النَّاسِ) إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك.

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار .

وروى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبًا، ويقول: والله فمَن شاء لاعنَّاه عند الحجر، ما ذكر الله جدًّا ولا جدة، قال الله تعالى -يعني إخبارًا عن يوسف-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) (قلتُ: المقصود في ذلك في المواريث، وأن الجد يحجب الأخوة؛ لأنه أب، فكما يحجب الأب الإخوة فكذلك الجد، وهو الصحيح من أقوال العلماء).

في الآيات فوائد:

الأولى: في قول يوسف -صلى الله علي وسلم-: (‌ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، أي: هذا بتعليم الله إياي، لم اكتسبه من قِبَل نفسي؛ ففيه نسبة النعمة إلى مسبغها على العبد، فهذا أثر من آثار التربية الإيمانية التي تلقاها يوسف في صغره؛ حيث علَّمه أبوه أن النعمة من الله -سبحانه-: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ ‌رَبُّكَ ‌وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) (يوسف: 6)، وتأمل كيف ذكر ربه باسم الربوبية مضاف إلى ضمير المتكلم (رَبِّي)؛ لأنها نعمة خاصة، وتعليم خاص، وإصلاح خاص بمنِّه وكرمه -سبحانه-، ثم علَّل هذه النعمة الخاصة والتعليم بأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون.

وهذا التعليل: (إِنِّي ‌تَرَكْتُ ‌مِلَّةَ قَوْمٍ) يدل السامع على أن هذه النعمة والفضل لها سبب من اكتساب العدل والعلم، وهو أيضًا مِن فضل الله -عز وجل-، وهي دعوة واضحة مع تلطف؛ لكي يتركوا الملة الباطلة التي هم عليها وقومهم مِن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.

وهذا التلطف في البداية يمنع نفرة النفوس في أول وهله؛ فهو يريد هدم الباطل في قلوبهم، ولو قال لهم: أنتم على ملة باطلة لا تؤمنون بالله وباليوم الآخر، فربما كان سببًا لنفرتهم، فأخبرهم عن نفسه فقال: (إِنِّي ‌تَرَكْتُ ‌مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وسوف يصرِّح لهم بعد لحظة بأنهم يعبدون الآلهة الباطلة، ولكن بدأ بهذا الأسلوب الرائع اللطيف الذي لا تنفر منه النفوس، وفي نفس الوقت يكون مبيِّنًا واضحًا في إبطال الباطل دون مجاملة ولا مداهنة.

ومثل هذا الأسلوب تلحظه في قصة مؤمن آل ياسين حيث قال لقومه: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَ?نُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يس: 22-24).

فهذا بلا شك أهون عليهم، وأخف مِن أن يقول: أنتم في ضلال مبين؛ فالداعي إلى الله حين يذكر مسائل الإيمان بما في ذلك الكفر بالطاغوت على لسان نفسه، وفي وصف حاله، وما يجد من النعم بسبب ذلك؛ فإنه بذلك يدخل إلى النفوس من أقصر طريق وألين أسلوب مع نصاعة الحق، ووضوح البيان.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة