الخميس، ٢ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ٠٩ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

إماطة الأذى عن الرؤوس!

إماطة الأذى عن الرؤوس!
السبت ١٩ يناير ٢٠٠٨ - ١٣:٣٣ م
13

إماطة الأذى عن الرؤوس!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

كم مِن المخالفات التي يرتكبها المسلمون في ليلة رأس السنة الميلادية!

وكم مِن التصرفات التي لا تليق بعاقل؛ فضلًا عن مسلم!

ولنبدأ بآخرها وأهونها -وليس بهيِّن عند الله!-.

تمشي في طرقات المسلمين صبيحة تلك الليلة لترى العجب العجاب، تجد قِطعًا من الزجاج والفخار والخزف، وقد تناثرت شظاياها في وسط الطريق مهدِدة المشاة والسيارات على حدٍّ سواء، وتعجب مِن تكاسل كافة الخلق عن إماطة هذا الأذى عن الطريق، صحيحٌ أن إماطة الأذى عن الطريق هو أدنى شعب الإيمان كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) (متفق عليه)، ولكن يكفيها شرفًا أنها مِن جملة شعب الإيمان.

ثم إن هذه الشعبة مِن شعب الإيمان قد غـَدت عند كثيرٍ مِن أهل زماننا المنبهرين بحضارة الغرب مِن أعظم شعب الإيمان، إلى الدرجة التي دفعت الكثيرين منهم إلى أن يقولوا: "إن في الغرب إسلام بلا مسلمين!"، يعنون بالإسلام الذي عند الغرب نظافة الطرق ونظامها، وإلا ففي أجوافهم نجاسة الخمر، وفي قلوبهم نجاسة الشرك، فلماذا يُقصِّر الناس إذن في شعبةٍ مِن شعب الإيمان رغم أنهم مِن الناحية النظرية يغالون فيها ويعظمون مِن شـأنها فوق ما هو أعظم منها مِن شعب الإيمان: كالتوحيد ونفي الشرك؟!

وإن تعجب مِن حال هؤلاء المتكاسلين عن إماطة الأذى عن الطريق، فالعجب كل العجب ممَن ألقى بهذا الأذى في طريق الناس عن عمدٍ!

وإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق مِن جملة الأمور المطلوب فعلها، فإن وضع الأذى في طريق الناس مِن أعظم المناهي الشرعية، والتي جاء لعن مَن وقع فيها، وفي الحديث: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ) قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ) (رواه مسلم)، وهذا الزجر الشديد لمَن يفسد على الناس طريق سيرهم، أو مواطن ظلهم، وإن كانوا بصحراء؛ فكيف بمَن يضع الأذى في الطرق المؤهلة العامرة؟!

ويا ليته كان "وضعًا"، ولكنه الإلقاء مِن الأبنية العالية الشاهقة، وربما صادف بعض المشاة أو بعض السيارات، ومَن لم يأخذ حذره تنهال هذه القذائف على رأسه قبْل أن تهوي إلى الطريق!

مما يعني أن الكلام على إماطة الأذى عن الطريق يعد رفاهية إذا ما علمنا أننا بحاجة إلى إماطة الأذى عن الرؤوس -أعني رؤوس المارة-، ولكن هذا لا يتأتَّى إلا بإماطة الأذى من رؤوس الرامين، فلابد مِن جولة داخل هذه الرؤوس لمعرفة ما الذي دهاها لكي تقدم على تلك الأفعال الشنيعة؟!

فإذا سألتهم فسوف تجد عجبًا! إن القوم يفعلون ما يفعلون تفاؤلًا بأنهم بذلك يودعون شرور سنة ماضية بكسر الأواني، وإن كان ذلك فوق رؤوس الخلق، وأنهم يعتقدون أن مَن لن يفعل ذلك سوف تبقى معه شرور السنة الماضية!

وهذا هو التطير الذي أقل أحواله أن يكون شركًا أصغر، والذي بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه مِن الشرك فقال: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) ثَلَاثًا. (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأعراف:131)، أي أن ما يأتيهم مِن الحسنات أو السيئات إنما هو مِن قضاء الله وقدره، وبالتالي فقد جاءت السُّنة بخير عوض للمسلم عن طيرة الجاهلية، وهو أن يقول المسلم: (اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ(رواه أحمد وصححه الألباني).

فالإسلام يربِّي المسلم على أن يتوكل في أموره كلها على الله -تعالى-، ثم بعد ذلك يأتي دور الأخذ بالأسباب الظاهرة الواضحة التي يدرك أهل الدنيا وجه العلاقة بينها وبين نتائجها، وهذا الجمع بيْن الأسباب الباطنة والظاهرة قد تعرض لهجمة غربية علمانية، تريد مِن الناس جميعًا -ومِن المسلمين خصوصًا- أن يتراجعوا عما أسموه بـ"الفكر الغيبي"، وأن يكفوا عن إنزال حاجاتهم ورفع دعواتهم لله -عز وجل-.

وهذه الثقافة العلمانية لا تفرِّق بيْن علم غيبٍ هو مِن خبر علام الغيوب المحفوظ بحفظ الله له، وبين غيره مِن التخرصات البشرية أو مِن أخبار الرسل التي تلاعبت بها أيدي البشر، فالكل عند القوم "خرافات!".

ولكن -ويا للعجب!- تراهم أنفسهم غارقين في الخرافة الحقيقية حتى آذانهم!

إن مقتضى إيمان العبد بالله -عز وجل- وقدرته الشاملة أنه يدرك أنه عبدٌ لله، والعبد لابد له مِن إظهار مظاهر العبودية التي هي الطاعة المطلقة، ومِن ثـَمَّ جاء دين الله بأوامر يجب على العباد امتثالها، ونواهي يجب عليهم اجتنابها، ومع ذلك جاءت الشريعة بأنواعٍ مِن التخفيف والتيسير عند وجود المشقة فضلًا عن الضرر.

وهؤلاء القوم الذين زعموا أن الإيمان بالغيب خرافة، ثم وقعوا في خرافات التشاؤم والتفاؤل بطقوس ما أنزل الله بها من سلطان، يحافظ أصحابها عليها محافظة تملأك دهشة وعجبًا، وكأنها العبادة التي استنكفوا عنها، ولكنها لجهةٍ مجهولةٍ لا تملأ القلب سكينة، ولا تسد فيه فقرًا إلى خالقه ومولاه.

وانظر إلى حال هؤلاء وهم يتحينون الميعاد بالدقيقة والثانية، وهم يحرصون على أنواع المقذوفات! والمسلمون الذين يفعلون هذه الطقوس غالبًا ما يكونون مقصرين في عباداتهم، أو على أحسن أحوالهم يكونون مِن المتـَرخِّصين الذين يسألون دائمًا عن الرُخَص في أمر العبادات الشرعية؛ لأن العبادات الشرعية معلومٌ مَن فرضها، ومعلومٌ مَن يُتوجه بها إليه، ومعلوم أن الذي فرضها شرع معها رُخَصًا يسأل عنها السائلون.

ولكن لمَّا كانت هذه الطقوس شيطانية لا يُعلم لها خطام ولا زمام، فالعاملون بها لا يجدون مَن يسألونه عن رخصة، ومِن ثَمَّ تجد الحرص البالغ على هذه الطقوس؛ وإلا فما أحوج طقوسهم إلى رخصةٍ تعفي أصحاب الأدوار العليا مثلًا مِن أن يتولوا بأنفسهم إلقاء هذه المقذوفات، أو رخصة تبيح لهم أن يوكلوا حارس العمارة عنهم حتى يكون مبصرًا على رأس مَن ستقع، أو رخصة تبيح تأجيل الرمي في الليالي الباردة؟!

ولكن القوم لن يجدوا مَن يسألونه عن هذا كله، ولا أدري متى يميط هؤلاء الرامون الأذى مِن رؤوسهم؟!

فلنبحث إذًا عمَن وضع هذا الأذى في رؤوس القوم؟!

لاسيما والغرب الذي مِن عنده ورد هذا الأذى يتبنى أعلى درجات المادية الرافضة لكل صور الفكر الغيبي -كما أشرنا آنفًا-، ولكن المفاجأة أنك ستجد أن هذه الطقوس هي جزءٌ مِن البقية الباقية مِن عقيدة الغرب الخرافية التي تمثلت في تحريفات أوروبا في عصورها القديمة على دين المسيح -عليه السلام-، وأن الغرب صدَّر لنا كل ثقافته -المادي منها والخرافي-؛ مما يستوجب على جميع المعنيين بشأن الأمة أن يعيدوا صياغة العقل المسلم، وأن يحرروه مِن التطرف الغربي في ميدان المادة، وفي ميدان الخرافة على حدٍّ سواء، وأن يعيدوه إلى المنهج الإسلامي النقي الذي لا يتوكل فيه إلا على الله، ولا يسأل فيه إلا الله، ومع الأخذ بما ينفعه والبعد عما يضره.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية