الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

السلفيون.. وتحقيق عبادة الوقت

السلفيون.. وتحقيق عبادة الوقت
الثلاثاء ١٥ أبريل ٢٠٠٨ - ١٣:٣٠ م
13

السلفيون.. وتحقيق عبادة الوقت

كتبه/ محمود عبد الحميد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن من أعظم التوفيق أن يكون المؤمن مباركًا أينما حل وارتحل، يتقرب إلى الله بعبادة تناسب الوقت أو المكان أو الحال، بقول أو فعل، أو احتساب أو ترك، أو دعوة، أو أمر بمعروف ونهي عن منكر.

ولما كان الإنسان مأمورًا بتحقيق العبودية في كل وقت وآنٍ، ومأمور في كل وقت بعبادة لهذا الوقت، فعلى العبد أن يحقق عبادة الوقت؛ لأنها تكون في هذه الساعة هي أحب إلى الله وأرضى، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سئل: "أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟" قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا). قَالَ: "ثُمَّ أَيُّ؟" قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ). قَالَ: "ثُمَّ أَيُّ؟" قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (متفق عليه).

وقد اختلفت أجوبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أفضل الأعمال، وكان الاختلاف باختلاف الأوقات، فقد يكون العمل في ذلك الوقت أفضل من غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال؛ لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن منها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "مدارج السالكين": "إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله وأرضاها له -عز وجل- في ذلك الوقت". ثم يفصل قائلاً: "فالأفضل في وقت حلول الضيف: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذا في أداء حقوق الزوجة، والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إقامتها والمبادرة إليها، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم".

ثم يقول -رحمه الله-: "ولا يزال العبد متنقلاً بين منازل العبودية، إن رأيت العلماء؛ رأيته معهم، وإن رأيت العُـبَّاد؛ رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين؛ رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين؛ رأيته معهم، يسير على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه" اهـ.

ومن هذا يتبين أنه لا توجد عبادة أفضل من عبادة مطلقًا؛ فلا يمكن أن نقول: إن قراءة القرآن أفضل من الذكر مطلقًا، أو أن الذكر أفضل من الدعاء، أو أن التسبيح أفضل من الاستغفار، وإنما أفضل عبادة في كل وقت هي الاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته، فالأفضل في وقت الأذان: ترديده، والأفضل في وقت الصلاة: أداؤها، وفي شهر رمضان: الاشتغال بالقرآن، والتهجد في العشر الأواخر، والأفضل في وقت السحر: الاستغفار، وعند حاجة الوالدين: خدمتهما، وعند حضور الضيف: إكرامه، وعند وقوع المنكر: إنكاره، وعند إلقاء السلام: رده، وعند وقوع القتال: الجهاد، وعند انتشار الجهل والمعصية: الدعوة، وهكذا.

فعلى المرء المسلم ألا يغفل عن عبادة الوقت؛ لأن عبادة الوقت هي الأهم، ومعلوم أن تقديم المهم على الأهم يهدر أوقاتًا كثيرة، يمكن أن تستغل في الأنفع والأصلح، وكلما اشتغل الإنسان في المهم عن الأهم؛ ابتعد عن مدارج الكمال، ولذلك جاء في الحديث: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ) (رواه مسلم).

وذلك؛ لأن الانشغال بالنافلة في وقت إقامة الفريضة هو انشغال بالمهم عن الأهم، ولذلك إذا أراد الشيطان إضاعة وقت المسلم يأمره بالأعمال المفضولة من الطاعات، فيحسنها في نظره ويريه من الفضل؛ ليشغله عما هو أفضل، ويشغله بما هو محبوب عند الله بما هو أحب إليه، ولا شك أن أداء العبادة في وقتها أحب إلى الله -تعالى-.

ومن تحقيق واجب الوقت: عدم تسويف التوبة، فلابد للإنسان إذا ما عصى الله -عز وجل- بسبب نزوة أو سقطة أن يبادر إلى التوبة، فإنها عبادة الوقت له، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).

وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أو أُسْلِمُ؟". قَالَ: (أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ). فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (عَمِلَ قَلِيلاً، وَأُجِرَ كَثِيرًا) (رواه البخاري).

وإن من تحقيق عبادة الوقت المبادرة بالأعمال الصالحة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) (رواه مسلم).

فالعبد إن لم يعبد ربه مع قلة الشواغل؛ فيكف يعبد ربه مع كثرة الشواغل وضعف القوى؟!

ولأن الوقت قد تكون له فضيلة، فتفوت بفواته، فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهوَ قائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ الله فِيها خَيْرًا؛ إلا أعْطاهُ الله إيَّاهُ) (متفق عليه) (رواه مسلم).

ولأن تأخير العبادة عن وقتها تشبُّهٌ بأهل النفاق، ودليل على ضعف الإيمان والوازع الديني، وهذا يورث كسلاً قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً) (النساء:142)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً) (رواه مسلم).

ومن عناية الشرع بتحقيق عبادة الوقت أن شرعت صلاة الخوف، وقد صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه في بعض حروبه مع المشركين، مع وجود الخوف من شن الكفار للغارة عليهم، ولم يؤجل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة ولا أخرها عن وقتها، وأداها في جماعة في وقتها المحدد.

واعلم أن الاهتمام بتحقيق عبادة الوقت يقتضي ترتيب الأولويات من الواجبات والمستحبات، ومع الانشغال بعبادة الوقت -أي التي حل وقتها، أو التي هي مقدمة عن غيرها- ينبغي الاهتمام بقضاء ما فات مما يجوز قضاؤه من العبادات، والاستعداد لما هو آت من الواجبات حتى إذا ما جاء وقت الواجب كان المرء على أهبة الاستعداد، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:46).

ولا ينبغي أن يشغلنا ما هو آتٍ عما هو واجب علينا الآن، ولا ينبغي أن ننشغل بما ليس في مقدورنا عما هو مقدور لنا، وواقع تحت طاقتنا، بل ينبغي استفراغ الوسع والطاقة في الواجبات والمستحبات، قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (متفق عليه).

فإننا إذا فعلنا ذلك استقامت أمورنا، وحققنا مرضاة ربنا، وسعدنا في الدنيا والآخرة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية