الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

ضوابط وآداب أهل العدل والإنصاف (2-2)

ضوابط وآداب أهل العدل والإنصاف (2-2)
السبت ٠٢ أغسطس ٢٠٠٨ - ١٢:٤٣ م
9

ضوابط وآداب أهل العدل والإنصاف (2-2)

كتبه/ محمود عبد الحميد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

رابعًا: إحسان الظن بالمسلمين، وحمل كلامهم على أحسن محامله ما دام يحتمل ذلك:

وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً".

وقال ابن القيم: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد منها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه، وما يناظر عليه".

خامسًا: ضرورة الجمع بين النصوص والمقالات، وعدم اعتماد الناقد على نص واحد:

كثير من العلماء يتعرض إلى القضية الواحدة في أكثر من موضع وأكثر من كتاب، فمرة يتحدث بصيغة الإجمال، وأخرى بالتفصيل، ومرة الإطلاق، وأخرى بالتقييد، وقد يتغير رأيه في المسألة الواحدة، ولابد في هذه الحالة من جمع المقالات التي تعرض فيها لتلك القضية، ومن ثم حمل المجمل على المفصل، والمبهم على الواضح، والعام على الخاص، والمطلق على المقيد، ويرجح المنطوق على المفهوم، والعبارة على الإشارة، والجلي على الخفي، والمتأخر على المتقدم؛ تحقيقًا للإنصاف، ودرء للتسارع في الانتقاد والاتهام.

سادسًا: المسلم يوزن بحسناته وسيئاته، والعبرة بكثرة الصواب والمحاسن:

فإن ذكر النقائص والعيوب والغفلة عن الخير والحسنات بخس وظلم للناس، قال محمد بن سيرين -رحمه الله-: "ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره".

قال الذهبي -رحمه الله-: "إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر زللـه، ولا نضللـه ونطرحه وننسى محاسنه، نعم، ولا يقتدى به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك".

وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم؛ حرم التوفيق، ودخل في الغيبة المحرمة، وحاد عن الطريق".

وهذا ما سار عليه علماء الجرح والتعديل حيث أنهم إذا جرحوا رجلاً في جانب من العلم فإنهم لا يغمطون له فضله إذا كان له فضل في مناحٍ أخرى.

سابعًا: كلام الأقران يطوى ولا يروى:

وهذه قاعدة قررها جمهور السلف وعلماء الجرح والتعديل، وفي ذلك يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة".

وقال مالك بن دينار: "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا بعضهم في بعض، فإنهم أشد تحاسدًا من التيوس".

وقال الذهبي -رحمه الله-: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من العصور سلم منه أهله من ذلك سوى الأنبياء الصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس".

وقد وقع ذلك في زماننا بين الجماعات الإسلامية واتجاهات الصحوة من تطاول بعضهم على بعض والتعصب المؤدي إلى البغي والتعدي.

ثامنًا: وقوع الخطأ من شخص لا يلزم وقوعه ممن على مذهبه أو جماعته:

ولأجل هذا لا يصلح أن ننتقد جماعة لخطأ وقع فيه بعض من ينتمي إليها، حتى لو كان الخطأ صدر من رئيسها؛ إذ ليست كل أقواله وأفعاله تنسب إلى الجماعة وتتحمل تبعتها، وعلينا أن ننظر إلى أصول وقواعد هذه الجماعة، وننقد هذه الأصول والقواعد؛ لأن الأفراد قد ينحرفون عن أصول دعوتهم، وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين للإسلام منحرفين عن منهجه، فهل يجوز أن نتهم الإسلام لانحراف هؤلاء الأفراد؟!، ولكن إذا ثبت أن الطائفة أو الجماعة أقرت ذلك المخطئ؛ فإنها تستحق النقد.

تاسعًا: نقد الآراء وبيان الأخطاء دون نقد الأشخاص ما أمكن ذلك:

فالأصل هو الستر والعمل على دفع دواعي الفرقة والوحشة وعدم الموافقة، فالرد ينصب على المقالة المخالفة المذمومة لا على قائلها؛ لأن في عدم فضحه فتح باب العودة والتوبة من مقالته، وحتى لا يكون في ذلك إعانة للشيطان عليه، فتصعب عودته، وتأخذه العزة بالإثم، ولكن إذا كانت المقالة فاحشة جدًّا كبدعة الخوارج والجهمية والقدرية وغيرها، أو كان المبتدع يدعو إلى خطئه وبدعته ويزينها في قلوب العوام فعند ذلك يذكر اسمه؛ وذلك لأن التعدي على الأشخاص ليس من النقد الموضوعي، فالنقد الموضوعي هو الذي يتجه إلى الموضوع ذاته لا إلى قائله، فينبغي التفريق بين نقد الرأي ونقد صاحب الرأي.

عاشرًا: لازم القول ليس قولاً:

فلا يجوز أن ننسب إلى شخص أو طائفة قولاً أو رأيًا لم يقل به على وجه التصريح، وإنما هو من باب الإلزام بالمفهوم، وأهل الحق والعدل لا يلزمون أحدًا بما لم يلتزم به، ولكن إذا التزم باللازم؛ كان قولاً له، وأما إذا نفى اللازم؛ لم يكن قولاً له، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإذا كان قد أنكره ونفاه؛ كانت إضافته إليه كذبًا عليه".

وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: "والتحقيق أن الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهبًا؛ لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل ما لم يلتزمه، ونقوّله ما لم يقل؟!".

حادي عشر: الامتناع عن المجادلة المفضية إلى النزاع:

والجدال الممنوع هو: الجدال المفضي إلى النزاع والخصومة، الذي لا يراد منه الوصول إلى الحق، أو يقصد منه: تعجيز الغير وإفحامه، أو الانتصار للنفس، أو غير ذلك من المقاصد السيئة، أما إذا كان النقاش والمجادلة من أجل الوصول إلى الحق ومعرفته، فهذا جائز، ولذلك قيده الله بأن يكون بالتي هي أحسن، قال -تعالى-: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)، وقال -تعالى-: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت:46).

وأما إن كان الجدال لغير الحق فقد حذر الله منه، فقال -تعالى-: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (غافر:5)، وقال -تعالى-: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ) (الأنفال:6)، وقال -تعالى-: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) (الأنعام:121).

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ: الأَلَدُّ الْخَصِمُ) (متفق عليه).

وقال مالك بن أنس: "المراء يقسي القلوب، ويورث الضغائن".

ورحم الله الشافعي إذ قال: "ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ".

وقال -أيضًا-: "ما ناظرت أحدًا إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي؛ اتبعني، وإن كان الحق معه؛ اتبعته".

ثاني عشر: حمل كلام المخالف على ظاهره، وعدم التعرض للنوايا والبواطن:

والأصل في هذه القاعدة: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) (رواه مسلم).

وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد حين قتل الرجل بعد أن قال: لا إله إلا الله، فلما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنكر ذلك عليه، فقال أسامة: إنما قالها متعوذًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ؟!) (رواه مسلم).

فما في القلوب لا يعلمه إلا الله، هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونحن مأمورون بالأخذ بظاهر الإنسان، وظاهر كلامه.

وقال عمر -رضي الله عنه-: "إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْي فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَإِنَّ الْوَحْي قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا؛ أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيء، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا؛ لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ" (رواه البخاري).

فلا يجوز لنا أن نتهم الناس في نواياهم ومقاصدهم، وعلينا الأخذ بالظاهر، وأن نكل إلى الله السرائر؛ فهو أعلم بهم، وهو حسيبهم يوم القيامة، فإن هناك فرقًا بين المعاملة الدنيوية والأخروية، فالرجل متى أظهر الإسلام في قوله وعمله وأبطن الكفر، أو أظهر السنة وأبطن البدعة، فالحكم الدنيوي أنه مسلم وغير مبتدع، والحكم في الآخرة يختلف.

فمتى راعى الناس هذه القواعد؛ قلَّ الخلاف، وزالت الشحناء والبغضاء، وتألفت القلوب، وسعى الناس إلى الأخذ بالحق الذي مع الآخرين، واختفت النميمة وسب العلماء وتجريحهم بغير حق.

وختامًا أسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق الذي جاء به سيد الأنبياء والمرسلين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com