الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

ابتلاء الله ورحمته لعباده المؤمنين

ابتلاء الله ورحمته لعباده المؤمنين
الاثنين ٠١ سبتمبر ٢٠٠٨ - ١٤:٠٩ م
11

ابتلاء الله ورحمته لعباده المؤمنين

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فالله -سبحانه وتعالى- غمرنا بنعمه وأسبغ علينا فضله ورحمته، وهو أرحم بعباده من الأم بولدها، ومن رحمته أمر الخَضِر أن يعيب السفينة؛ ليحفظها على المساكين من غصب الملك الذي يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فيجعل -سبحانه وتعالى- ما ظاهره الهلاك، باطنه لعباده المؤمنين النجاة، ومن رحمته أمره أن يقتل الغلام لئلا يرهق أبويه طغياناً وكفراً، فيجعل -سبحانه- برحمته ما ظاهره الحرمان والفقد، باطنه لعباده المؤمنين العطاء والمن، ومن رحمته أمره أن يقيم الجدار للغلامين اليتيمين حفظاً لكنزهما من أجل أبيهما الصالح، ومن رحمته أخذ بناصية عباده المؤمنين إليه، وأذاقهم في هذه الدنيا من حبه وقربه ما يُدركون به جنس نعيمهم في الجنة، ليزدادوا حرصاً على التقرب إليه بطاعته، وبعداً عن معصيته، ومن رحمته أن أذاق عباده حلاوة الإيمان وجعل حبه وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- في قلوبهم أعظم من كل حب آخر، وحببهم لبعضهم فيه -عز وجل-، وكره إليهم الكفر مثل كراهتهم للإلقاء في النار.

والحب في الله من أعظم المشاعر الإنسانية التي يمنُّ الله بها على من يشاء؛ ليعرفهم فضله عليهم، ويدلهم على ما أعد لهم في جنته (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين)(الحجر:47)، وليجعلهم بسلوكهم مع بعضهم دعوة متحركة حية لغيرهم، فإذا رآهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين أقبل على الإيمان والإسلام، وأحب أن يكون مثل هؤلاء المتحابين بدلاً من الحقد والحسد الذي يجده في البيئة النجسة البعيدة عن الإيمان، إذ أن عطاء الله للمؤمن في البلاء هو من أعظم العطاء وأفضله.

وما أجمل ما ذكره الشعبي عن البلاء للمؤمن:

بأنه كالبيضة للفرخ يظن أنه سجن وإنما هو حصن معد؛ لاكتمال نموه إلى أجل مسمى، فإذا اكتمل الأجل نقره نقرة أو نقرتين، فيخرج إلى الحياة الفسيحة حياً سميعاً بصيراً، خلقاً آخر غير ما كان قبل أيام من صفار وبياض، ولو كسر قشر البيضة قبل الأجل لمات الفرخ، فكذلك البلاء للمؤمن، يقدره الله لأجل مسمى، يخرج المؤمن به بقلب أتم حياة، وعلماً، وسمعاً ، وبصراً، فاللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا إليك صراطاً مستقيماً.

ومن الكلمات الجميلة الجديرة بالتأمل التي تُعظم في قلب العبد رجاءه في رحمة الله وسعة كرمه ما قال ابن القيم عن أن أشعة التوحيد تبدد من ظلمات الذنوب وغيومها حسب قوتها وضعفها.

قال -رحمه الله-:

"وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق (أي: سياق الموت) عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال على أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت فهذا أمر آخر، وإيمان آخر، ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها. وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها" أهـ.

ووالله إنها لقصة عظيمة في سعة رحمة الله للراحمين، فمن يرحم يرحمه الله، ومن لا يرحم لا يُرحم، فلأجل ما في قلبها من الرحمة بهذا الحيوان غفر الله ورحمها، وشكر لها القليل من العمل وغفر به الكثير من الزلل، فكيف بمن يرحم أهل الإيمان والإسلام، بل إذا كان يرحم ولده، وهي رحمة طبيعية يكون ذلك من أسباب رحمة الله به، ففي الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبَّل بعض صبيان الصحابة، فقال أحد الأعراب: أتقبلون صبيانكم؟ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْولَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ، مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ)، فنسأل الله أن يرحمنا أجمعين.

ومن الأمور الرائعة في ذلك أن الله يحب من عبده أن يكون رحيماً حليماً حتى لو أدى ذلك إلى طلب رحمة من لا يستحق الرحمة من الكفار المجرمين، يثني على إبراهيم في دعائه: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(إبراهيم:36)، وقال -عز وجل- عنه: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(هود:74-75)، فالله -سبحانه وتعالى- يبين أن الحامل لإبراهيم على طلب تأخير العذاب عن قوم لوط المجرمين العتاة في إجرامهم، يأتون الفاحشة علناً وهم يبصرون، ويقطعون السبيل لاغتصاب الفروج المحرمة، ويأتون في ناديهم وملتقاهم المنكر والفاحشة، كامل الفساد في كل مكان، ومع كل هذا يطلب إبراهيم تأخير العذاب عنهم بعلة وجود لوط -عليه السلام-، رجل واحد صالح، ما الذي حمل إبراهيم -عليه السلام- على هذا الأمر الذي لا يستجاب، لأنهم ليسوا أهلاً له؟ الحامل على هذا أمر مدحه الله وأحبه منه وهو حلمه وكثرة دعائه وإنابته (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(هود:75).

هم نهاه الله عن الاستمرار في هذه المجادلة، فقال: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(هود:76)، فمع كون طلب تأخير العذاب لم يقبل إلا أنه لما صدر عن الحلم والشفقة والرحمة، مدحه الله على هذه الصفات، وكذلك استغفاره لأبيه رغم أنه لم يُجَبْ ولم يُغفر لأبيه، إلا أنه مدح على سببه، فقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيم)(التوبة: 114)، فبين الله -تعالى- أن سبب استغفاره لأبيه أولاً حال حياة أبيه حلمه، وكونه أواهاً كثير الدعاء والتسبيح والقنوت، فالله رحمن رحيم، يُحب الراحمين ويرحمهم ويثني عليهم.

ومن أعظم فوائد البلاء زيادة الرحمة في قلوب العباد آباء وأمهات وإخوة وأخوات، وأبناء وبنات، فيكون ذلك من أسباب نيل رحمة الله.

وقد شرع الله لنا الدعاء بطلب الرحمة في مواطن منها: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب)(آل عمران:8)، وقال -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(المؤمنون:118)، وقال عن الأبوين: (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(الأعراف:23)، وقال عن نوح: (وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(هود:47)، وقال: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(المؤمنون:109)، وقال عن موسى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(الأعراف:151)، وقال عن أهل الكهف: (رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)(الكهف:10)، وقال عنهم: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)(الكهف:16)، وغير هذا كثير.

فطلب الرحمة من الله بالدعاء واستدعاؤها برحمة خلقه صفة أساسية للمؤمن لابد له منها، وإنما يدخل المؤمنون الجنة برحمة الله، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِىَ اللَّهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ) متفق عليه.

نسأل الله أن يتغمدنا برحمته في الدنيا والآخرة.

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)(الفرقان:74).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة