الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

سبيل الحق يشمل سبل الخير والطاعات

سبيل الحق يشمل سبل الخير والطاعات
الثلاثاء ٢٠ يناير ٢٠٠٩ - ١٩:١٢ م
8

السؤال:

أسأل عن قول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، كيف أن السبل جاءت بصيغة الجمع مع أن السبيل والصراط المستقيم واحد والنور واحد كما هو معلوم والظلمات متعددة ثم إن الله عز وجل لم يقل: سبيلنا حتى نقول كما يظن البعض أن سبلنا إضافة تشريف لله عز وجل؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فالسبيل الواحد يجمع سبلاً عدة من الخير، وهي أنواع الطاعات المختلفة المتنوعة من العلوم والأعمال. كما بينه ابن القيم -رحمه الله- في طريق الهجرتين.

قال ابن القيم في كلام له ممتع -رحمه الله تعالى-:

والطريق إلى الله في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلا لمن سلكه، قال الله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)(الأنعام:153)، فوحد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة، كما ثبت أن النبي خط خطًا، ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثم قال: (هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، ومن هذا قوله -تعالى-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، فوحَّد النور الذي هو سبيله، وجمع الظلمات التي هي سبيل الشيطان، ومن فهم هذا فهم السر في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ).

مع أن فيه سر ألطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور، ومن أين فاض؟ ولماذا حصل؟ وأن أصله كله واحد.

وأما الظلمات فهي متعددة بتعدد الحُجُب المقتضية لها، وهي كثيرة جدا لكل حجاب ظلمة خاصة، ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادي -جل جلاله- أصلا، ولا وصفا، ولا ذاتا، ولا اسما، ولا فعلا، وإنما ترجع إلى مفعولاته؛ فهو جاعل الظلمات، ومفعولاتها متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنه يرجع إلى اسمه وصفته -تعالى أن يكون كمثله شيء-، وهو نور السموات والأرض، قال ابن مسعود: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه" ذكره الدارمي عنه، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر، قلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: (نورٌ أنَّى أراه).

والمقصود أن الطريق إلى الله واحد، فإنه الحق المبين، والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد وطرقه متعددة، وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة؛ جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها؛ رحمة منه وفضلا، فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق.

وإيضاحُه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي اللهَ، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، ولكن لمَّا اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق؛ ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقًا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله، ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها، مع رجوعها كلها إلى دين واحد مع وحدة المعبود ودينه، ومنه الحديث المشهور: (الأنبياء أولاد علات دينهم واحد) فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأمهات متعددة، فشبه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها وإن تعددت فمرجعها إلى أب واحد كلها.

وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته قال -تعالى-: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(النساء:100).

وقد حكي عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن، أنه رؤي بعد موته وأخبر أنه في تكميل مطلوبه، وأنه يتعلم في البرزخ، فإن العبد يموت على ما عاش عليه.

ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.

ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه.

ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله.

ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.

ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه، ونفذ منه إلى ربه.

ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينه، يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل ما تريد من الأعمال لقال أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت، وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس لي مراد إلا تنفيذها، والقيام بأدائها، مراقبا له فيها، عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر، قد سلمت إليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، فهذا هو العبد السالك إلى ربه، النافذ إليه حقيقة.

ومعنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه، ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره، وطلب التقريب إليه، فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه، وتولي تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده، فإنه -سبحانه- القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعِها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه، وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا، وناصرا ومعينا وهاديا؟

فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه، ويقع شكرا له، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات، والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم، وإلا فأي قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه؟ هذا ما لا يكون أبدا...الخ) ا.هـ طريق الهجرتين(277-281).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية