الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الشيخ "أسامة حافظ" ومحاولة استنساخ الشيخ "الغزالي"

الشيخ "أسامة حافظ" ومحاولة استنساخ الشيخ "الغزالي"
السبت ٠٦ يونيو ٢٠٠٩ - ١٨:٣٤ م
18

الشيخ "أسامة حافظ" ومحاولة استنساخ الشيخ "الغزالي"

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن حق الشيخ "أسامة حافظ"؛ بل من واجبه وواجب كل أحد أن يراجع نفسه، ويتراجع عما بدر منه من خطأ، ولذلك فمن المستحسن أن يجتر الشيخ ذكريات هذه الأخطاء لتكون عظة لنفسه، فمن هذا الباب تذكره تذكر النادم عن مسلك تعامل به مع مستمعي الغناء حيث يقول في مقال: "أيام من حياتي ـ7ـ قصتي مع فتوى الموسيقى": "وكم من أجهزة تسجيل وراديوهات -يسمونه المذياع- حطمناها؛ لأن أصحابها رفضوا إغلاقها عن أغنيات كانوا يتسلون بسماعها"!

كما يجمل منه الاعتذار عن حدة تعامل بها مع شيخ من القائلين بإباحة الغناء؛ كما يقول في المقالة السابقة:

"ولا أنسى يومًا تعرضت فيه لشيخ من شيوخ الدعوة علي المنبر بكلام حاد، وبصورة غير لائقة -لم يكن فيها تطاول ولا شتيمة- مرددًا كلام ابن القيم؛ لأنني سمعته يقول: إن الموسيقي الجميلة من الإسلام، وأنه كان عنده عود؛ مما أغضب كثيرًا من محبيه لما اعتبروه تجاوزًا في حقه رحمة الله عليه".

وإنما قلنا بحسن هذين الموقفين:

باعتبار أن الأول منهما من تكسير لآلات اللهو وغيرها من صور إنكار المنكر باليد دون اعتبار المصالح والمفاسد، والقدرة والعجز مما كان يمثل الخطأ الرئيسي للجماعة الإسلامية سابقـًا، والذي جرَّ إلى غيره من الأخطاء، وقد تم تدارك ذلك -بفضل الله- في المبادرة.

وأما الثاني فعلى أساس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ)(1)(رواه مسلم).

وإذا كنا نعرف تاريخ "التفكير الجماعي" للجماعة الإسلامية بإعادة تقييم موقفه النظري والعملي، وما أسفر عنه من صدور كتب المبادرة الأربعة التي تمثل حتى الآن القدر الجماعي من المبادرة، والذي لاقى ترحيبًا من الأوساط السلفية، ثم تتابعت بعد ذلك آراء نظن أنها حتى الآن تمثل اجتهادات فردية من أصحابها، كان أكثرها مصادمة للمنهج السلفي كتابات الشيخ "أسامة حافظ"، والذي بدأها بقضية الغناء كنموذج، ثم سرعان ما تابعها بدفاع شامل عن منهج الشيخ الغزالي.

فأما الغناء فيقول في شأنه:

"وبإعادة القراءة في الموضوع وجدت أن القصة كلها قائمة على حديث آحاد معلق في البخاري(2) -دعك من الحديث ومن وصله عند غيره وكلام البعض حول هذا السند-، وعلى مجموعة من أقوال للصحابة وأهل العلم.

وبعد أن اتضح أن كثيرًا من الصحابة وأهل العلم لهم رأي آخر، وأن الحديث له تأويلات تتحدث عن مجالس اللهو التي يجتمع فيها هذه الأربعة أشياء، وأن أدلة الإجازة -إن كان العفو الأصلي يحتاج إلي استدلال- أقوي وأصح، مثل: حديث الجاريتين، وحديث زواج الأنصار، وغيرها، وأن كل ما يقال من حديث لصرف هذه النصوص عن ظاهرها فيه تعسف ظاهر لأي شخص محايد(3) يقرأ في الموضوع -مع كل تقديرنا للعلماء الأفذاذ الذين تعرضوا للموضوع-".

إلى أن قال:

"وأن دعوى الإجماع التي زعمها ابن القيم لا أساس لها(4) إلا إذا اعتبرنا أن الصحابة عبد الله بن جعفر، وابن الزبير، وابن عمر، ومعاوية، وعمرو بن العاص -رضي الله عنهم- خارج هذا الإجماع، وأن عشرات العلماء الذين خالفوا كلام ابن القيم لا يُعتبرون من أهله -مع كل التقدير للعالم القدير-".

وبعد أن فرغ من الكلام على الغناء؛ بدا الأمر وكأن القضية ليست في الغناء وحده، بل له عند الرجل "أخوات" فقال:

"ولا يخفى أن عدم العمل بحديث آحاد معلق حتى ولو كان في البخاري لأسباب أقوى تنقدح في نفس العالم من نصوص صحيحة أو تأويلات للنص لا حرج فيه"(5).

وقد قام الشيخ "عبد الفتاح الأزرق"(6) بالرد على الشيخ "أسامة حافظ" في مقال بعنوان "عذرًا يا شيخنا فأنت حبيب إلى قلوبنا... ولكن الشرع أحب إلينا"، وقد تناول الشيخ في هذا المقال أدلة التحريم، وبيَّن اتصال حديث المعازف، وذكر من صححه من أهل العلم مع ذكر طائفة أخرى من الأحاديث صحح كلاً منها أحد المتقدمين، كما ذكر عن الألباني تصحيحه لها أو لمعظمها.

ثم ساق الآثار عن الصحابة في حرمة الغناء وبيَّن أن من نـُسب إليه منهم حِل الغناء أو سماعه فهو مصروف حتمًا -للجمع بين الأدلة- إلى الحداء، ثم لخص أسماء المصحِحين لأحاديث حرمة الغناء؛ فذكر أن القائمة تشمل:

1- البخاري               2- ابن حبان

3- الإسماعيلي           4- ابن الصلاح

5- النووي                6- ابن تيمية

7- ابن القيم              8- ابن كثير

9- ابن حجر العسقلاني 10- ابن الوزير

11- السخاوي           12- الأمير الصنعاني

وكنا نظن أن العاصفة قد هدأت، وأن الرد العلمي الرصين على الشيخ أسامة من صاحبه قد كفى الآخرين مؤنة الدخول في معركة اختار لها الشيخ أسامة الموضوع الخاطئ، والزمان الخاطئ(7)، إلا أن الشيخ أسامة أبى إلا أن يرد على صاحبه بمقال عنوانه: "رسالة فقهية إلى الداعية عبد الفتاح الأزرق"(8) كرر فيها أمورًا سبقت الإجابة عليها في مقال الشيخ الأزرق نتوقف منها عند قوله:

"ثالث هذه الملاحظات هي عملية الحشد التي حشدتها من الأحاديث لتقوية القول بالتحريم لم تجئ فيها بغير تقليد الشيخ الألباني في تصحيحها".

ولا أدري كيف تسنى له أن يطلق هذه الدعوى والشيخ الأزرق قد ذكر له قائمة بالمصححين لهذه الأحاديث، ولم يترك المجال لتخمين أنه لا مصحح لها إلا الألباني، ثم عارض تصحيح الألباني حسب ادعائه بتضعيف ابن حزم، والغزالي، وابن العربي.

وهذه قضية تستأهل وقفة:

ذلك أن بعض الباحثين يرتدي في بعض مواطن بحثه ثوب الاجتهاد، وفي بعضه ثوب التقليد، ولا أظن أن الشيخ أسامة يدعي الاجتهاد بأي درجة من درجاته في علم الحديث؛ فلم يبقَ إلا التقليد فبالله عليكم إن جاءنا حديث صححه البخاري "بناء على تعليقه مجزومًا به"، وابن حجر، والألباني، وضعفه أقوام؛ منهم من لم يرَ أحد أهم أصول كتب السنة كابن حزم الذي لا يقنع باتباع البخاري فيما علق مجزومًا به، وفي نفس الوقت لم يطلع على سنن أبي داود التي روى فيها الحديث موصولاً، ومنهم من قال: بضاعتي في الحديث مزجاة كما قال الغزالي، فمن يمكن للرجل الديِّن المنصف أن يتبع أو يقلد؟!

ثم نقض دعوى الإجماع على تحريم الغناء بأنه قد وجد مخالفين مع أن هؤلاء المخالفين فريقان:

الأول: لم يثبت عنهم النقل وعلى فرض ثبوته فالجمع بينه وبين الدليل والإجماع متيسر بحمل السماع على الحداء، وهذه النقطة مفصلة في رد الشيخ الأزرق، بيد أن الشيخ حافظ أعرض عن مناقشة الشيخ الأزرق فيما قال.

الثاني: متأخرون كابن حزم، إجماع السابقين حجة عليهم ولا عبرة بمخالفتهم.

ثم قال:

"خامسًا نحن لا نسلم أن معنى الحديث يفيد التحريم الجازم لأسباب:

1- أن التحريم هنا يثبت بفحوى الخطاب والذي لا يصار إليه إن وجد النص.

2- أن المعازف كلمة اختلف أهل اللغة في مدلولها، وقد نقل اللسان، وتاج العروس، والقرطبي وغيرهم لها أكثر من معنى؛ فهي: آلات الملاهي - وأصواتها - والغناء - وكل لعب - وتناشد الأراجيز - والتهاجي بالشعر، والتفاخر به.

وعليه فما دام اللفظ محتملاً لأكثر من معنى لا يكون لأي منها أفضلية إلا بدليل يخصص... فإن عُدِم استعمل الجميع، وإلا أُهدِر الجميع".

ونحن لا ندري إذا كان الحل عنده إما استعمال الجميع وإما إهدار الجميع فلماذا اختار إهدار الجميع؟! بيد أن هذه العبارة من الشيخ أسامة افتقدت إلى الأساس العلمي، وذلك أن اللفظ التي هذه حالها إما ألا يوجد مانع من إرادة كل هذه المعاني فهو من قبيل العام، وإما أن يكون متى أريد أحدها امتنع إرادة الثاني فهو من قبيل المشترك، ولا يقال في أي منهما: "إما إعمال الكل أو اطراح الكل".

بل يقال في العام يُعمل به على عمومه ما لم يخص، ويقال في المشترك إما أن توجد قرينة على تحديد المراد، وإما أن يترك العمل به حتى يتبين، وعلى القول الآخر للعلماء لا مانع من حمل المشترك على جميع معانيه، وعلى كلٍ فدلالة لفظ المعازف على هذه المعاني هو من باب دلالة العام على أفراده، وهي التي يقال فيها: "يُعمل بعمومه ما لم يخصه دليل".

وإذا استحضرنا ذلك زال الإشكال في قول أهل العلم باستثناء الدف لورود المخصص، وزال الإشكال في تقييده بكونه مصمتًا لا جلاجل فيه، والتي استغربها الشيخ جدًا، ولا أدري ما بال عقلانيي زماننا يردون الحديث بالعقل، ثم إذا جاءهم القياس المنضبط نفروا منه، فنقول:

إن الشرع أذن في الدف ونهى عن الكوبة -وهي الطبلة-؛ لأنها تعطي أصواتـًا موسيقية أكثر اتقانـًا، وكذا نهى عن الجرس -ولو كان جرس بعير-؛ فـُعلم أن الشرع رخص في أقل أنواع المعازف حدة وأقربها إلى روح الحداء لا الغناء، فما كان ينهى عن الجرس منفردًا ثم إذا علق هو أو ما يشبهه في الدف أبيح، والقول بذلك ظاهرية تستوجب تلك السخرية التي كان الشيخ حافظ يخص بها صديقة الظاهري الهوى في فترة الشباب.

ثم ختم الشيخ مقاله بقوله: "يا عم الشيخ عبد الفتاح أعد القراءة في هدا الموضوع بحيادك المعروف ودون أفكار مسبقة، وأنا واثق أننا سنتفق وإن شئت أن أزيدك في هذا الموضوع فإنني يسعدني ذلك".

وانتهت بذلك معركة "الغناء" لتبدأ معركة أكثر شراسة فإذا كان الغناء على خطر القول بإباحته هو مسألة جزئية فإن الخطر الأكبر في التقعيد لأصل كلي، والذي جاء في مقال بعنوان: "الشيخ الغزالي والعلة القادحة.. معركة كتاب السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث"، والمقال عبارة عن دفاع عن الشيخ الغزالي -عفا الله عنه- عجز هو في حياته أن يرد بمثله حتى صدق في الشيخ أسامة حافظ أنه "غزلاوي أكثر من الغزالي"!!

ولا يمكن تفسير المقال على أنه دعوة إلى احترام أقدار الرجال وإن اختلفنا معهم؛ لأن عامة من أجاب على الغزالي في ذلك الوقت قد تحفظ هذا التحفظ؛ ولأن الشيخ أسامة حافظ إذ دافع بحرارة عما أسماه بحق الغزالي في تقدير العلة القادحة حيث يقول: "ما هو سر هذه الحملة الشرسة علي الشيخ، وغاية ما فعل أنه استخدم حقه كعالم وفقيه في النظر في الحديث كما نظر الأولون وبحث فيه كما بحثوا، فرد من وجهة نظره بعضًا منها لعلة رآها قادحة فيها، أو لدليل اعتبره أرجح".

لقد حاول الشيخ أسامة حافظ أن يصنف كلام الشيخ الغزالي في خانة: "تقدير العلة القادحة"، وليس في خانة: "تقديم العقل على النقل"؛ لأن الأولى مقبولة عند أهل العلم، والثانية مرذولة.

فإلى أي البابين ينتمي صنيع الغزالي؟؟

بداية نود أن نشير إلى أن الشيخ أسامة حافظ قد استعرض عددًا من الأمثلة على رد العلماء لأحاديث لوجود علة قادحة؛ -ليعتذر عن الغزالي بأنه ليس بدعًا في هذا الباب-، لا يكاد يسلـَّم له بأي منها، بل هي معدودة في باب التعارض والترجيح، ومنه ما قيل فيه بالنسخ، والفرق بين الأمرين ظاهر؛ حيث يُرد الحديث ابتداء بالعلة القادحة في المتن إذا خالف العقل، أو الحس، أو أصول الشرع مخالفة لا تـُحتمل بأي وجه من الوجوه، وأما ما سوى ذلك فيُقبل ليتم محاولة الجمع بينه وبين غيره؛ فإذا تعذر الجمع لجأ العلماء للترجيح، فإن لم يكن .. قالوا بالنسخ.

ولكي تتضح الصورة نذكُر المثال الذي ذكره ابن الصلاح في مقدمته: للحديث المعلول وتبعه على ذلك عامة المصنفين في هذا العلم، قال -رحمه الله-:

"ومثال العلة في المتن?:? ما انفرد "?مسلم"? بإخراجه في حديث أنس، من اللفظ المصرح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه?:? فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق "?البخاري ومسلم"? على إخراجه في "?الصحيح?"، و رأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له?.? ففهم من قوله?:? كانوا يستفتحون بالحمد لله، أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس فيه تعرض لذكر التسمية?،? وانضم إلى ذلك أمور، منها?:? أنه ثبت عن أنس?:? أنه سُئل عن الافتتاح بالتسمية، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم?".

وأنت ترى أن رد الحديث بالعلة لم يتسنى إلا بعد اكتشاف الخلل الظاهر الذي أصاب هذا الحديث، ولم يطمئن وجدان العلماء لإعلال الحديث إلا بعد أن وجدوا التصور الكامل لمنشأ الخلل في الرواية، وأما باب التعارض والترجيح فباب واسع اتفق العلماء فيه على أن الجمع الذي هو محاولة إعمال كل من الدليلين في آن واحد أولى؛ فإن تعذر فيلجأون للترجيح الذي يبنى على استفراغ الوسع في تقديم الدليل الأقوى ثبوتـًا ودلالة، والذي يقودهم إلى محاولة استنباط علة ما في الدليل الآخر حتى يطمئنوا في نهاية الأمر إلى أنهم لم يفتهم شيء مما في دين الله.

وكذلك فمن أبواب الترجيح النسخ الذي يبنى على أنه متى صح نسبة أمرين متعارضين إلى الشرع فلا بد أن اللاحق منهما ناسخ للسابق، هذا طبعًا بخلاف النسخ المنصوص عليه، والذي لا يدرج تحت باب التعارض والترجيح إلا من باب التسامح، وإلا فالنص عليه يمنع من الوقوع في وهم التعارض ابتداءً.

الحاصل أن ثمة خلل جوهري في السند أو المتن يقتضي الحكم عليه بشذوذ أو علة يُرد بها الحديث؛ فإن صح سنده ولم يشتمل على شيء من ذلك اعتبر أحد أدلة الأحكام، والتي ينبغي على الفقهاء إعمال جهدهم في العمل بها، ولما غاب هذا المعنى عن الشيخ الغزالي -رحمه الله- استنكر بقاء حديث: (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) (متفق عليه)، في دواوين السنة رغم إنكار عائشة -رضي الله عنها- له، وعائشة -رضي الله عنها- إنما ظنت أن عمر وابنه -رضي الله عنهما- وهِمَا؛ لأنها سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حق يهودية: أنها تعذب وهم يبكون عليها، يعني: تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء.

وتأكد ذلك لديها بقوله -تعالى-: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام:164)، ومع ذلك رأى المحدثون حديث عمر -رضي الله عنه- ليس فيه مخالفة مطبقة توجب رده بكل حال، ثم نظر الشراح في الأحوال والقرائن فوجدوا أن الواقعة التي ترويها عائشة -رضي الله عنها- غير التي يرويها عمر -رضي الله عنه-؛ فلم يبقَ إلا التعارض الظاهري مع القرآن؛ فسلك العلماء فيه مسلك الجمع وحملوه على من أوصى أهله بالبكاء عليه، بل وبقي جانب آخر من التعارض؛ وهو ما ثبت من إباحة البكاء على الميت فحملوا حديث عمر على النياحة لا على مطلق البكاء.

ومع أن هذا المسلك مثبت في شروح كتب السنة، وفي كتب الفقه إلا أن الشيخ الغزالي أعرض عن كل هذا ليظل مستنكرًا على المحدثين إبقاءهم هذا الحديث في دواوين السنة.

ومن هنا يتبين أن الغزالي لم يسلك مسلك العلماء في قبول كل الأدلة التي في الباب متى صحت وسلمت من العلة القادحة على النحو الذي بيناه، ثم إجراء قواعد التعارض والترجيح إذا وجد التعارض، وفي هذه الحالة يرجح العالِم الدليل الأقوى، ولذلك مسالك موجودة في مظانها، وهذا يختلف عن إعمال الرأي والهوى المتفق بين أهل السنة على رده(10).

وإلا فأي دليل عارَض عند البخاري حديث: "الأمر بقتل الكلاب" إلا أن "الأوربيين" يحبونها؟!

وأي دليل عارض عنده النهي: "عن أكل كل ذي ناب من السباع" ومنها الكلاب إلا أن "الكوريين" يأكلونها؟!

وأي دليل عارض عنده حديث: "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" إلا أن "إنجلترا" قد رضوا بحكم "المرأة الحديدية"؟!

وأي دليل عارض عنده أحاديث "سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-" إلا أن "المستشرقين" يرون هذا طعنـًا في النبوة؟!

وأي دليل عارض عنده أدلة "حرمة المعازف" إلا أنه يحب سماع "أم كلثوم"؟!

وأي دليل عارض كل أحاديث "الهدي الظاهر" إلا أنه يراها من القشور؟!

لقد رام الشيخ أسامة حافظ أن يصور لنا أن أخطاء الشيخ الغزالي ما هي إلا أخطاء في تطبيق قاعدة متفق علي صحتها؛ بينما هي في الواقع تطبيق لقاعدة "متفق على فسادها عند السلف".

ومما يشهد لذلك صنيع الشيخ أسامة نفسه الذي توفرت همته لنقل ثلاثة عشر مثالاً لتطبيق العلماء لهذه القاعدة، وضنَّ علينا بمثال واحد يشرح لنا دوافع الغزالي التي جعلته يرد ما ردَّ من السنة.

إننا نجزم أنه لا يرد أحد دليلا إلا لدليل ينقدح في نفسه أنه أقوى منه، ولكن الخلاف بيننا وبين العقلانيين على مدار تاريخهم في أنهم يرون في أوهام عقولهم قطعيات عقلية تـُرد نصوص الوحي من أجلها، حتى خرج علينا الغزالي ورفاقه فجعلوا من أهواء غيرنا حاكمًا على شرعنا!!

وكفى بهذا عيبًا على هذا المسلك، والشيخ أسامة يعرف ذلك جيدًا إلا أنه حاول أن يقلب ذلك العيب مزية؛ فقال في معرض دفاعه عن الغزالي:

"أما الثالثة: فهو اهتمام الشيخ بنظرة الآخرين من الغرب للإسلام، وحرصه علي أن يدفع عنه ما علق بأذهانهم عنه من أدران، وكثيرًا ما يصدر حديثه في رد ما يراه من حديث بأن ذلك يسيء للإسلام في عيون الغرب؛ ولكننا نعلم من ثقة الشيخ في دينه وعظيم حملته علي التغريب والدفاع عن هويتنا التي يسعي الغرب لتذويبها فيه الشيء الكثير.

وندرك أن الأمر وإن كان شاغلاً لجزء من جهده الفكري فإنه لا يمكن أن يكون دافعًا وحيدًا لرد الحديث أو الطعن عليه؛ حتى لو كان كذلك فإن معرفتنا بالشيخ وعلمه ودينه كانت ينبغي أن تدفعنا لنحسن الرد إن كان ثمة ما يستدعي الرد، وحسبنا ما نعتقده من حسن نيته وعظيم جهاده لنصرة هذا الدين".

وهنا لم يجد الشيخ أسامة إلا إحالتنا على حسن نية الشيخ، ولا أظنه يغيب عنه قول القائل: "وكم من باغ للخير ليس يبلغه"، وكفى بهؤلاء القوم الذين ذكر الله من شأنهم أنهم: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف:104)، واعظـًا لنا حتى لا نركن إلى النوايا.

وفي الواقع إن دفاع الشيخ أسامة عن الشيخ الغزالي ينطبق عليه كله قول القائل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة...

منها، أنه غفر له وبجرة قلم إغلاظه بالقول في حق أئمة أجلاء على اعتبار أن ذلك لا ينقص من قدرهم ولا من قدره، وكنا نتمنى من الشيخ حافظ إذ أغلظ هو على من رد على الشيخ الغزالي واصفـًا إياهم بـ"أنصاف المتعلمين" أن يعامل الغزالي في انتقاصه لعلماء الأمة بشيء من الشدة، أو على الأقل تحذير الأجيال الجديدة من قراءة كتبه حتى لا يتأثروا بأسلوبه؛ لا سيما وأن الفرق بين الشيخ الغزالي وبين الأئمة الذين لمزهم يربو عشرات الأضعاف على الفرق بين الغزالي وبين منتقديه، ما لم يكن الفرق لصالح كثير من هؤلاء المنتقـَدين الذين نصروا سنة رسولهم -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة شيخ رام خيرًا من تقريب الإسلام إلى الغرب؛ فبدلاً من أن يدلهم على جوانب عظمته شوهه عن طريق تهجينه بعقول الكفار، بل والله بأهوائهم وشهواتهم.

وأما الجزئية المستعصية على الفهم من دفاع الشيخ أسامة عن الشيخ الغزالي فهي إقراره بأن الغزالي ليس له سلف في بعض ما ذهب إليه، ولو أنصف لقال إنه لا سلف له في معظم ما ذهب إليه(11).

الحاصل:

- إن تقرير مبدأ الدعوة إلى الله بالحسنى أصيل في منهج السلف لا يحتاج إلى اقتباس من المدرسة العقلانية القديمة ولا الحديثة، لا سيما من كان من رواد تلك المدرسة ممن يرى الرأي فيريد أن يحمل عليه أهل الأرض جميعًا بين عشية وضحاها، وإلا كانوا في عرفه من "البُلهاء".

كم نتمنى أن لا يعتبر الشيخ أسامة حافظ الخطأ السابق في التعامل مع نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خللاً في قاعدة "الاتباع"، وتقديم النقل الذي لا يمكن أن يخالف العقل الصحيح وإن خالف الظنون، حتى وإن صدرت من ذوي العقول الراجحة، وممن لهم حظ من العلم بدين الله.

نسأل الله -تعالى- أن يهدينا إلى ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من المؤسف حقـًا أن نجد أن الشيخ أسامة حافظ ما يزال يمارس نفس هذه الأدوار التي تبرأ منها، ولكنها في هذه المرة مع شباب الصحوة، فإذا الشيخ في "شبابه" كما يقول أقدم على تكسير أجهزة التسجيل للآخرين مع أنهم يقلدون علماءهم القائلين بحل الغناء متذرعًا بما قرأه عن ابن القيم مكتفيًا به، بل غير مكمل إياه بكلام ابن القيم نفسه في موطن آخر بدرجات تغيير المنكر، فها هو يمارس نوعًا من الإرهاب الفكري قائلاً في المقال المذكور:

"لقد مكثت أدرِّس الفقه والأصول للإخوة أكثر من ثلاثين سنة قرأت خلالها كثيرًا من كتب الفقه، عشرات منها علي كل المذاهب سواء مذهب أهل الفقه أو أهل الحديث، مختصراتها ومطولاتها، وكذا قرأت آلاف الفتاوى ما تم جمعه في كتب وما لم يجمع، سواء من فقه علماء السلف أو علماء الخلف".

وعلى الرغم من أن هذه الفترة منها قدر لا بأس به لم يكن فيه لا دراسة ولا تدريس، وربما كان فيها ما ينسي الإنسان مبادئ الهجاء، كما أن معظم هذه الفترة كان الشيخ يرى تكسير المسجلات وإن تكسرت الدنيا بعدها على رأس مكسرها، ورأس كل من صافحه يومًا ما، وكان يرى أن مخالفيه ليس لهم نفس اطلاعه الواسع على كتب السلف.

وأما الحدة والسخرية من المخالف فما يزال الشيخ يستعملها مع خصومه واصفـًا مخالفي الشيخ الغزالي بأنصاف المتعلمين، مع أنه كان في معسكرهم حتى وقت قريب، وإذا استصحبنا أن الدراسات الفقهية تكاد تكون مشترَكة بين معظم الإسلاميين إن لم يكن بين معظم المسلمين، وأن "البصمة الفقهية المميزة" للشيخ أسامة طوال هذه الثلاثين عامًا إلا قليلاً هي في المواطن التي يشجبها الآن؛ تملكنا العجب من قدرته على الجمع بين اعتزازه بتاريخه وبين تراجعه عن جلّ ما كان يميزه في هذا التاريخ.

وإذا كان الشيخ عندما كان ينتقد الغزالي من أنصاف المتعلمين كان يجب أن يحذف من تاريخه الطويل مع الفقه الفترة التي أمضاها مع "أنصاف المتعلمين"، ويقتصر على الفترة التي صار فيها من "المتعلمين"، وحبذا لو كتب لنا بدلاً من "قصته مع الغناء من المنع إلى الإباحة" قصته مع العلم من أنصاف المتعلمين إلى المتعلمين. وأرجو ألا يعتبر الشيخ هذا الاستطراد نوعًا من التجاوز؛ لأنني لم أجاوز فيه ألفاظه ولوازم كلامه.

(2) مقال: "أيام من حياتي ـ7ـ قصتي مع فتوى الموسيقي"، هو الثالث للشيخ أسامة في موضوع الغناء مسبوق باثنين هما:

"فتوى في الغناء" قرر فيها حله ورد على أدلة المخالفين.

"لماذا لا نختلف" استنكر فيها موقف فريق العمل بموقع الجماعة الإسلامية الذين أبدوا ممانعة مبدئية لنشر الفتوى.

وكان الثالث هو مقال "أيام من حياتي ـ7ـ قصتي مع فتوى الموسيقي".

ثم تبعه رابع بعنوان: "رسالة فقهية إلى الداعية عبد الفتاح الأزرق"، والذي نريد التنبيه عليه هنا هو قوله في الفتوى: "ولن نتحدث عن تعليق البخاري للحديث وروايته بصيغة التمريض"، ومع ملاحظة أن البخاري علقه مجزومًا به، وأن كل من صحح الحديث احتج بأنه صحيح عند البخاري نفسه؛ لأنه جزم به مما يدل أن هذه النقطة لا يمكن أن تخفى على باحث أعاد قراءة المسألة من مصادرها، وأن غالب الظن أنه قرأها فقط من كتب المبيحين فكتب ما كتب فلما ثارت ضجة حذف جزئية التمريض والجزم من سياق كلامه هنا، ولم يتعرض لها إثباتـًا ولا نفيًا.

وكانت الأمانة العلمية تقتضي أن يشير إلى الوهم الذي وقع فيه في الفتوى، ولكن تلك الإشارة كان من شأنها أن تنسف دعوى إعادة بحث المسألة بحثـًا "محايدًا" من أصلها، وحتى عندما رد عليه الشيخ "عبد الفتاح الأزرق" وتناول رده هذه الجزئية جاء رد الشيخ أسامة حافظ عليه خاليًا من التعرض لهذه الجزئية لا إثباتـًا ولا نفيًا.

(3) (4) لا أدري إن كان تراجع الشيخ عن الحدة وهو يرمي كل قائل بحرمة الغناء بعدم التجرد، وغالب الظن أن الشيخ لم يتخل عن الحدة على المخالف، بل تراجع عن الحدة عن الموافق فاحتد على مؤيدي الغناء فلما رأى رأيهم تألم لحدته عليهم واستعاض بدلاً عنها بحدة على القائلين بحرمته، فمن هنا نعلم أن الحدة لم تفارق الشيخ، ولا أدري هل كانت هذه إحدى الأمور التي دفعته إلى تبني آراء الغزالي الحادة؟!

(5) لم يترك الشيخ فرصة لأحد لالتقاط الأنفاس حتى خرج علينا بمقالة: "الشيخ الغزالي والعلة القادحة... معركة كتاب السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث"، ثم تبعه بآخر بعنوان: "الشيخ الغزالي مرة أخري".

(6) في الواقع فإن الشيخ عبد الفتاح الأزرق لم يذكر لنا كم عامًا قضاها مع الكتب أو في تعلم العلم وتعليمه إلا أن بحثه ينم عن شخصية فقهية ناضجة ملمة بالأصول والفروع مع التحلي بالأمانة التامة في نقل كلام المخالف فجزاه الله خيرًا.

(7) لم يفتأ الغزالي ومن نحا نحوه يحذرون الأمة من الانشغال بقضايا لا تهم الأمة، وهي في عرف الغزالي لا تقتصر على الهدي الظاهر، بل تشمل طائفة كبيرة من أبواب الفقه منها أبواب الطهارة والحيض والنفاس، ونحن بدورنا نسأل الشيخ أسامة الذي نبش عن كتاب الغزالي من بين الأنقاض أسئلة، منها:

- هل خلال الثلاثين سنة فقهًا اعتنى بأبواب الطهارة والحيض والنفاس، أم كان يحذفها؟ وإذا كان يقوم بتدريسها قبل تبنيه آراء الغزالي فماذا سيكون الحال لو كتب له تدريس الفقه مرة أخرى؟!

السؤال الآخر والذي يتعلق بقضية الغناء؛ لا نكاد نعرف في زماننا غير نوعين من الغناء:

الأول: غناء "الفيديو كليب" الذي يشتكي منه أهل الغناء أنفسهم.

الثاني: "الأناشيد الإسلامية" المتداولة بين أبناء الصحوة.

وأما "أم كلثوم" التي كان الشيخ الغزالي يعتبر أغانيها مثالاً لما يمكن أن يباح من الغناء فقد ذهبت غير مأسوف عليها من الفريقين، أصبحت مملة لأصحاب الفريق الأول بينما هي بالنسبة لأبناء الصحوة لا سيما ذوي التوجه السلفي الذي يصر الشيخ أسامة أنه ما زال ينتمي إليه فيرون أنها صاحبة: "هل رأى الحب سكارى مثلنا"، وصاحبة أغنية: "إباحة القبلة"، وهي التي أفسدت جيلاً كاملاً حتى إذا بلغ الفساد المراد منها، تم الدفع بمن هن أكثر فسادًا، ولا ينفرد التيار السلفي بهذه الرؤية، بل يشاركه فيها كثيرون، وللشيخ كشك -رحمه الله- طائفة كبيرة من النقد الذي وجهه إلى المغنيات عمومًا، وإلى "أم كلثوم" خصوصًا.

(8) في النفس من العنوان شيء ولنا أن نتساءل: هل لو كان الشيخ الأزرق قد استبدل بعنوانه الرقيق عنوانـًا كهذا: "رسالة فقهية إلى الداعية أسامة حافظ" كان سيحمل على حسن الظن؟!

(9) هل لنا أن ننسج على منواله؛ فنقول:

"يا عم الشيخ أسامة أعد القراءة في هذا الموضوع بروح سلفية ودون أفكار مسبقة تحاول بها الاعتذار للغزالي أو غيره عن حدتك عليه في مرحلة الشباب، وسوف تصل -بإذن الله- إلى موقف وسط بين موقفيك القديم والحديث".

(10) في المقال الأخير: "الشيخ الغزالي مرة أخري" قدم لنا مثالاً واحدًا رأى فيه بعض العلماء أنه مردود لمخالفته الحس، ولمعارضته لإباحة لحم البقر، وهو حديث: "لحم البقر داء".

والجواب:

أولاً: نحن لم ننكر القاعدة وإنما بينا أن الغزالي يرد الأحاديث لمجرد رأيه وهواه، أو لأي شبهة تعارض دون أن يحاول الجمع كما هي مسالك علماء الأصول، ولا يعني تعسف الغزالي في استخدامها أن يخطئ في كل استخدام.

ثانيًا: لا يختلف اثنان على أن الحديث ظاهره معارض لأدلة الإباحة، ولكن قبل البحث في التعارض لا بد من البحث في الصحة، وقد تتبعنا كلام العلماء الذين سماهم الشيخ حافظ فوجدناهم ضعفوا الحديث سندًا ثم زادوا في أسباب ضعفه مخالفته لأدلة الإباحة فلا يصلح مثال على تلك القاعدة.

وأما من صح عنده فبحث عن الجمع ووجه الجمع عند حمل النهي على الإكثار من لحم البقر، وهو معدود عند أهل زماننا من الإعجاز العلمي في السنة حيث ثبت أن لحم البقر أشد من غيره بكثير في المسئولية عن داء "النقرس"، ولا نزاع بين العلماء في حل لحم البقر، فلا خلاف على حمل الحديث على الإكثار منه.

وبالتالي فقول الشيخ حافظ: "إن كل الأحاديث التي لم يقبلها الغزالي له في عدم الأخذ بها سلف من علمائنا عدا حديث أو حديثين انفرد بردهما ولم أعثر علي سلف له فيهما؛ لعله قصور في أدوات بحثي... هل ترون أن الأمر بعد ذلك يستحق كل تلك الحرب علي الشيخ؟!"، لا يغني شيئًا حتى يسمي لنا هؤلاء العلماء فيتبين لنا أنهم ردوا السنة كما ردها الغزالي، وبنفس منهجه؛ وإلا فقد يوجد من لا يبلغه دليل أو آخر، وفي النهاية كل يؤخذ من قوله ويترك.

بيد أن الشيخ أسامة حافظ اعترف أن الغزالي أقدم على ما أقدم عليه دون أن يعرف أن له سلفـًا وإلا لسماهم "مما يدل على جرأته على القول في الدين بلا سلف"، وأن الشيخ أسامة بحث له عن سلف في كل مسألة فحصل له في هذه المسائل على سلف كتمه عنا، بيد أنه أعيته الحيلة في حديث أو حديثين كنا نتمنى على الأقل ألا يضن علينا الشيخ أسامة بهما من باب الحذر من الشذوذ عن أقوال السلف، ومن أعجب ما في هذه الزوبعة قول الشيخ أسامة في نهاية هذا المقال: "هل ترون أن الأمر بعد ذلك يستحق كل تلك الحرب علي الشيخ"؟!

مع أن الشيخ الغزالي مات -عفا الله عنه- وكتابه مات هو الآخر -والحمد لله-، والضجة إنما أعادها جذعة الشيخ أسامة حافظ لا أحد غيره، ولكنه في النهاية يعتب على الجميع حتى فيما جنته يداه، وخطه قلمه.

وقد أثبت بهذا الصنيع بأنه تقمص شخصية الشيخ الغزالي إلى أبعد حد فقد كان الشيخ -عفا الله عنه- لا همَّ له إلا محاربة من أسماه التمسك بالقشور فكان هو أول واقع في ذلك، بينما كان معظم من ينتقدهم لا تمثل لهم تلك القضايا التي أرقت مضجعه إلا نزرًا يسيرًا من وقتهم وجهدهم.

(11) اقتصرنا على بيان عدم صحة تشخيص الشيخ أسامة حافظ لمنهج الغزالي، وأما الرد على كتاب الغزالي فتصدى له بعض أهل العلم في كتابات أجودها: "المعيار لعلم الغزالي في كتابه السنة النبوية" للشيخ "صالح آل الشيخ".

ومن عجيب الأمر أن الأستاذ "جمال سلطان" والذي تتولى جريدته المصريون نشر مقالات الشيخ أسامة له كتاب متين في الرد على الغزالي بعنوان: "أزمة الحوار الديني" فلا ندري هل إفساحه المجال لمقالات الشيخ أسامة حافظ من باب الرأي والرأي الآخر؟! أم أنه هو الآخر قد اكتشف أنه كان من أنصاف المتعلمين يوم أن كان رده على كتاب الغزالي من أعنف الردود؟!

وثمة ملاحظة جوهرية وهي أن الشيخ أسامة حافظ بلا شك يعلم بوجود ردود كثيرة على كتاب الشيخ الغزالي، ولكنه أعرض عنها فلم يبين السبب الذي من أجله خالف كاتبيها بعد أن كان من زمرتهم، ثم فتح بابًا للرد على المعلقين على مقالاته من قراء الإنترنت، وكانت ردوده عليهم كلها من نوعية: "وأكاد أجزم أن هذا المعترض لا يعرف منهج المعتزلة الذي يرمي الشيخ به"، وأن الآخر: "ردد مقلدًا قول من رمى الغزالي بعدم إتقانه لمصطلحات المحدثين".

وفي هذا جانب آخر من جوانب "تقمص" شخصية الشيخ الغزالي -رحمه الله- الذي كان غالبًا ما يختار أضعف الخصوم الذين يصدق عليهم وصف "البله"، بل أكثرهم كـ"هؤلاء الإخوة -الذين اختص الغزالي بمعرفة خبرهم- الذين كسروا مائدة الطعام لضيفهم بينما هو يحضر الطعام -من المطبخ-؛ فقام هو بدوره بتكسير دراجاتهم البخارية ريثما ينتهوا هم من تناول الطعام على المائدة المحطمة"، فلم يجد الغزالي من يصلح مثالاً لمن يهتمون بالهدي الظاهر إلا هؤلاء البله!!

وبعيدًا عن هذا المثال المفرط في الغرابة فإن عامة كتب الغزالي تحكي عن محاوراته مع "شاب جاءه" لا يحفظ سوى كلمات يتمتم بها بلا دراية، ولم نر له معالجة جادة لأي من الأفكار التي انتقدها، وقد تأثر الشيخ أسامة بهذا المسلك؛ ففضل مناظرة شباب النت متهمًا إياهم بالتقليد الأعمى تاركًا من قلدوهم أعيانـًا وكتبًا!!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية