الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

حول فقه النوازل

حول فقه النوازل
السبت ١١ يوليو ٢٠٠٩ - ٢١:٠١ م
11

حول فقه النوازل

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالنوازل: جمع نازلة، ويراد بالنوازل: الوقائع والمسائل المستجدة، والحوادث المشهورة، ويقال للنوازل أيضًا: الحوادث، جمع حادثة.

ولا شك أن المجتمع يشهد من وقت لآخر أمور مستجدة، وأحوال لم تعرف من قبل، يحتاج معها الناس إلى من يبين لهم فيها حكم الشرع، ما يحل منها وما يحرم، وكيف يكون التصرف نحوها على ما يحبه الله -تعالى- منهم ويرضاه، وهذا الأمر يتطرق إلى نواحي الحياة المختلفة على تنوعها، كأمور السياسة والاقتصاد، والأحوال الاجتماعية والحروب، والمنازعات والصلح وغير ذلك.

والبت في هذه المسائل المستجدة فوق أنه بيان لحكم الشرع فيها، فإنها ينبني عليها اتباع الناس لها، وعملهم بها، والالتزام بمقتضاها؛ فإن بنيت على خطأ في الحكم على المسألة ترتب عليها مفاسد عديدة لمخالفة وجه الحق الذي شرعه الشرع فيها، وبدرجة قد يصعب أو يتعذر إزالة ما ترتب عليها من نتائج وآثار بعد ذلك، وللأسف فنحن نرى عوام الناس، بل ومن صغار طلاب العلم من يتكلم في مثل هذه المسائل مستهينـًا بما يجب أن يلتزم الناس به تجاهها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

فليس أمر الناس الذي يتعلق بمعاشهم ويحتاج لأمر الشرع فيه لكل أحد، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) (رواه البخاري)، فمن علامات الساعة أن يقدم لتسيير أمور الناس، أو بيان حكم الله فيها من ليس لها بأهل.

إن الحاكم في واقعة يحتاج إلى دراية كبيرة بالشرع وأحكامه، حتى يدرج هذه الواقعة تحت ما يوافقها من الأدلة الشرعية، أو يلحقها بما يناسبها من القياسات، وهي مرتبة عالية من الاجتهاد لا تثبت إلا لمن استوفى شروط الاجتهاد عند العلماء وحصَّل أدواتها، وصارت له الملكة الفقهية الفائقة في النظر في الأدلة إن تعارضت واشتبهت على الكثيرين، ومثل هذا العالم المجتهد المتمكن، وإن لم يكن معصومًا؛ لكونه بشرًا، فسقطاته وزلاته تكون قليلة أو نادرة، أما من لم يستجمع أدوات الاجتهاد وشروطه، ويشهد له أهل العلم بذلك، فلا يستأمن على ذلك.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "العالم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)". اهـ من إعلام الموقعين لابن القيم:4/212.

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق -أي دقائق أحكام الجهاد- من وظيفة خواص أهل العلم". منهاج السنة:4/504.

وقال الشاطبي -رحمه الله- في الاعتصام: "بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها، ولا يجدها من ليس بمجتهد، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه". الاعتصام للشاطبي:1/361.

والذي يفتي في النوازل عـَلـَمٌ بين العلماء، إذا جدَّ الأمر طلب العلماء جوابه، يقول ابن رشد في شروط من يتصدى للفتوى في النوازل:

- "أن يراه الناس -أي العلماء- أهلاً لذلك.

- أن يرى نفسه قد جمع شروط الاجتهاد.

- فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صح استفتاؤه فيما ينزل من الأحكام". البيان والتحصيل:17/339.

ويقول الشاطبي: "والعالِم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم، حتى يشهد فيه غيره، ويعلم من نفسه ما شهد له به، وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك؛ فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره، ولم يفعل! وكان من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ولم يفعل!". الاعتصام 3/99.

قال الألباني -رحمه الله- تعليقـًا على ذلك: "هذه نصيحة الإمام الشاطبي إلى العالِم الذي بإمكانه أن يتقدم إلى الناس بشيء من العلم ينصحه بأن لا يتقدم حتى يشهد له العلماء خشية أن يكون من أهل الأهواء". السلسة الصحيحة:2/713.

وعلى هذا جرى السلف، لا يتقدم عالمهم للفتيا إلا إذا شهد له العلماء بذلك، فعن الإمام مالك -رحمه الله- قال: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك".

وعنه قال: "لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه".

فأحق من يتأنى في أموره من يفتي في نوازل الناس، وأول من يتمنى أن يحمل عنه غيره تبعات الأمور من يقول للناس: هذا حرام، وهذا حلال، في أمور معايشهم ومعاملاتهم، وتتعلق به أموال الناس وأعراضهم، وربما الدماء كذلك.

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة فإنك أن تكون تابعًا في الخير خير من أن تكون رأسًا في الشر".

وعن الحسن البصري -رحمه الله- قال: "إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".

وما أسوأ أن تنقشع الغمة عن الناس؛ ويظهر لهم وجه الحق فيها، فيرون كيف أن من ظنوه بعالم قد غرر بهم عن جهل، وكان عليهم أن يستفتوا من هو أعلم بدين الله منه.

يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرًا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فإنه كاذب آثم؛ كما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي في السنن عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة). اهـ من الرد على الأخنائي لابن تيمية ص:9.

إن الواجب على المسلم إذا نزلت نازلة بالأمة أن يتأنى في التعامل معها، ولا يتقدم برأيه أو هواه، وإنما يتطلع إلى من هو أهل لها، من أهل الاجتهاد، ممن شهد له أهل العلم بأحقيته في النظر في النوازل والبت فيها، فيستفتيه، ويفهم عنه رأيه ووجهته، ويعلم منه ما ينبغي عليه تجاه تلك النازلة.

وفي حديث جبريل -عليه السلام- المشهور عندما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، يقول راوي الحديث يحي بن يـَعْمَر: (كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِىُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِىُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ فِي الْقَدَرِ... ) (رواه مسلم).

وفي رواية: أنهم لقوا بعض الصحابة فلم يسألوهم وإنما قصدوا أعلمهم يومئذ، يقول الراوي: "فلما أتينا المدينة لقينا أناسًا من الأنصار فلم نسألهم، قلنا: حتى نلقى ابن عمر -رضي الله عنهما- أو أبا سعيد الخدري... " رواه الطبراني، وابن منده في الإيمان، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد.

وفي الرواية الأولى: (فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ... ثم قال له يحي بن يعمر: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ -وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ- وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّى بَرِىءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ... ) (رواه مسلم).

وقد أرشد القرآن إلى ذلك، فقد قال -تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) (النساء:83).

يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطـًا للمؤمنين وسرورًا لهم، وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك.

وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية؛ وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.

وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقـْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟" اهـ كلام الشيخ السعدي -رحمه الله-.

ومن النوازل ذات الشجون ما وقع في الحرم المكي في الأول من المحرم عام 1400هـ عندما قام "جهيمان" و"محمد بن عبد الله القحطاني" ومن معهما بالاستيلاء على الحرم المكي بالقوة، زاعمين أن القحطاني هو المهدي، وبايعوه بين الركن والمقام، مستندين إلى رؤى منامية تواترت عندهم، مما ترتب عليه إلحادهم في الحرم المكي والاقتتال فيه، وانتهاك حرمة شهر المحرم وسفك دماء المسلمين، وترويع الآمنين وتعطيل العبادات، والشعائر في الحرم.

ولو تأنى هؤلاء وراجعوا أهل العلم لظهر لهم شناعة ما اقترفوه؛ فإن الرؤى مهما كثرت لا يثبت بها أمر شرعي، ولا تجيز مخالفة الشرع بالإلحاد في الحرم، وحمل السلاح وأذية المسلمين وترويعهم، والمهدي تساق له الناس لتبايعه لا يسوق هو الناس ليبايعوه عند الحرم، وماذا على أتباعه لو تريثوا لينظروا أيظهر أمره فيبايعوه أم لا يظهر فيكون صاحبهم غير المهدي المذكور في الأحاديث؟

ولقد همَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بضرب عنق ابن صياد -شبيه الدجال- فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) (رواه مسلم).

وهذا هو سفيان الثوري يسأله رجل: "يا أبا عبد الله: إن الناس قد أكثروا في المهدي -يعني في زمانه- فما تقول فيه؟ فقال -رحمه الله-: إن مرَّ على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه"(1). رواه أبي نعيم عنه في الحلية.

فكان تعجل هؤلاء وعدم رجوعهم لمن يفتيهم فيما وقع معهم والأخذ ممن ليسوا بأهل للاجتهاد وراء هذه الفتنة العظيمة، والإلحاد الكبير في البلد الحرام والمسجد الحرام، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع في ذلك كتاب: "المهدي وأشراط يوم القيامة" لشيخنا الفاضل محمد بن إسماعيل المقدم -حفظه الله- ص: 557-565.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة