السبت، ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٤ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

تحديد النسل وتنظيمه خشية ضيق العيش

تحديد النسل وتنظيمه خشية ضيق العيش
الأحد ٢٤ يناير ٢٠١٠ - ١٣:٤٠ م
9

تحديد النسل وتنظيمه خشية ضيق العيش

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فترجع دعوة تحديد النسل وتنظيمه إلى رأي دعا إليه قس إنجليزي يدعى "مالتوس" في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، ودعا إليها من بعده "فرانسيس بلاس" في فرنسا، والطبيب "تشارلس نوروتون" في أمريكا.

ويرى أصحاب هذه الدعوة أن تكاثر البشر عملية مستمرة يزداد معها السكان بانتظام، مع أن الصالح من الأرض للسكنى والزراعة محدود؛ وهذا يعني -في زعمهم- أن تضيق الأرض مع الوقت بسكانها، ولا يكفي إنتاجها لمعيشتهم؛ وعليه فينبغي تحديدُ النسل، والوقوفُ به عند حد لا يتعداه؛ إنقاذًا للبشرية من الخطر الذي يتهددها وينتظرها.

وقد راجت هذه الدعوة في الغرب، واستجاب لها الكثيرون، وصارت اتجاهًا عامًّا في بلادهم؛ ترتب عليها انخفاض الزيادة السكانية لدى الكثير من شعوب أوروبا، وانتهى القرن العشرين الميلادي وقد مال الغرب إلى معاداة هذا الاتجاه، والمناداةِ بخلافه؛ حيث كَثـُرَتْ في المجتمعات الأوروبية الحالية نسبةُ كبار السن عما ينبغي، وقـَلَّتْ بسبب هذه الدعوة نسبةُ الشباب فيها عما يجب، وضَعُفَتْ معدلاتُ نمو السكان فيها لدرجة تنذر بعواقبَ وخيمةٍ على مستقبل هذه الشعوب.

وفي مقابل ذلك؛ تنمو الشعوب الأُخَر في أفريقيا وأسيا التي لم تستجب إلى هذه الدعوة بدرجة ملموسة نموًّا طبيعيًّا؛ تزداد معه فيها نسبةُ الشباب في المجتمع بصورة ملحوظة. ومما زاد الخطب على أوروبا أنها فقدت عشرات الملايين من سكانها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين. وقد نقل المفتونون بالغرب إلينا هذه الدعوةَ، وروجوا لها، وزينوها للناس، ووجهوا لها كلَّ طاقاتهم وطائلَ أموالهم؛ لتطبيقها في بلادنا دون تمحيص أو إعادة تقييم للتجربة هناك.

والحقيقة الغائبة عن الأذهان لدى هؤلاء المفتونين بتلك الدعوة أنها دعوة قاصرة قاسَتِ الأمور مِن جانب واحد وضَخَّمَتـْهُ وتَغَاضَتْ عن جوانبه الأُخَر؛ ففـَقدت مصداقيتَها.

فلاشك أن الأرض في تطور مستمر، وتقدمٍ علميٍّ متزايد، بل قد شهدت البشرية مِن القرن الثامن عشر الميلادي إلى القرن العشرين طفراتٍ ضخمةً في شتى ميادين العمل والإنتاج، ولعل "مالتوس" لو عاش أيامَنا لانبهر بها انبهارًا ربما صرفه عما دعا إليه! وليته كان معنا ليذكر لنا رأيه في شعوب أوروبا وهي تسوق الأيدي العاملة مِن أفريقيا للعمل في أمريكا الشمالية كعبيد قديمًا، وكعُقُولٍ مُفـَكِّرَةٍ وأَيْدٍ عاملةٍ ماهرةٍ رخيصةٍ في زماننا الحالي! حتى صارت العمالة الأجنبية المُهاجِرة وجالياتُها في أوروبا مصدرًا للقلق هناك.

والعجب كل العجب ممن يحسب عدد السكان ويتوقعه بعد عقود من السنين قادمة، ثم يوزع ما هو على الأرض الآن من الإنتاج والأرزاق على هذا العدد المتوقع بنظرة تشاؤمية! وهذا مِن اتباع خطوات الشيطان؛ الذي يَعِدُ الناسَ الفقرَ ويأمرهم بالفحشاء.

وقد فات "مالتوس" ومَن تابعوه أن الله -تعالى- هو الرزاق، وهو -عز وجل- لا يُعجزه شيءٌ، خَلَقَ الأرضَ وقـَدَّر فيها ما يكفيها مِن الأقوات؛ قال -تعالى-: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت:9-10)؛ فأرزاق العباد بِيَدِ الله -تعالى- وحدَه يعطيها مَن يَشاءُ؛ كيف يَشاءُ، ومتى شَاءَ. والرزق مكفول ومقدَّر قبل خلق الخلق، ومدوَّن في اللوح المحفوظ، ولا يزيده حرصُ حريص؛ قال -تعالى-: (ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى:27)، وقال -تعالى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود:6)، وقال -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) (العنكبوت:60)، وقال -تعالى-: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) (الشورى:19)، وقال-تعالى-: (اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:37).

فخزائن الرزق عند الله -تعالى- لا تنفد، ولا تحتاج إلى عَدٍّ ولا حساب... كيف يشاء، ومتى يشاء -عز وجل-. وقال -تعالى-: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات:22-23)؛ فالرزق مِن عند الله -تعالى-، وهو اختصاص الله -تعالى- وحدَه لا يشاركه فيه أحد. وتأمل ما صَاحَبَ هذا المعنى المراد تعليمه للبشر مِن أساليب القسَم وأدوات التأكيد: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)؛ وذلك لما يقع في نفوس البعض مِن الشك في أن الله -تعالى- هو الرزاق، وهو القادر على سَوْق الرزق لعباده... أو ينسون ذلك أو يتناسوه.

إن كلَّ ما ينفقه البشرُ ويستهلكونه اللهُ يُخْلِفـُه متى شاء، وكيف شاء؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سبأ:36)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (سبأ:39).

ولهذا منع الإسلام قـَتـْلَ الآباء لأولادهم خشيةَ أن يشاركوهم في الرزق فيكون الفقرُ والإملاقُ؛ قال -تعالى-: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (الإسراء:31). وتحديد النسل وإن لم يكن قتلاً لروح موجودة بالفعل؛ فإنه سَعْيٌ لمنع وجود هذه النفس؛ للسبب نفسِه؛ وهو خشية أن يَطـْعَمَ معه فيوقعه في ضيق العيش! فاتفقت دعوةُ تحديد النسل خشيةَ الفقر مع قتل الأولاد خشيةَ الإملاق في السبب... وهذا أسوأ ما في هذه الدعوة.

ومعلومٌ أن كثرةَ النسل -خاصة مِن الذكور- سببُ قوة الأمة ومنعتها؛ فتصير أمةً عزيزةً مرهوبةَ الجانبِ بين الأمم، وقِلَّةَ العدد مظهرٌ مِن مظاهر الضعف والخَوَر؛ ولهذا قال نبي الله شعيبٌ -عليه السلام- لقومه يُذَكِّرهم بنعمة الله -تعالى- عليهم: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف:86).

فكيف نرضى للأجيال القادمة أن يَقِلَّ عددُها بين الأمم بَعْدَ أن يُرَوَّجَ فيهم تحديدُ النسل وتنظيمُه! فيعانون مما تعاني منه دولُ أوروبا الآن؛ مِن ضعف معدلات النمو، وكثرةِ نسبة كبار السن، وقلةِ نسبة الشباب. وقد ذكر لنا القرآن الكريم كيف أن فرعون لما قتل الذكورَ مِن بني إسرائيل عَرَّضَهم للضعف وقلةِ النسل؛ إذ لا تجد النساءُ مِن الذكور ما يكفي للقيام بشئونهن ويحافظ لهن على استمرار النسل فيهن بصورته العادية؛ فكان ذلك كما وصفه القرآن الكريم: (بََلاءٌ عَظِيمٌ) يحتاج إلى مَن يُنقذهم منه؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة:49)، وقال -تعالى-: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:4-6).

فكثرة النسل ثروة، وهذه الثروة البشرية مصدرُ القوة في الحروب، ومصدرُ زيادة الإنتاج إذا أُحْسِنَ استخدامُها في حالة السِّلـْم؛ فالإنسان إذا كان يأكل بعض الأرغفة والأطعمة في اليوم فعنده مِن القدرات البدنية ما تجعله ينتج أكثر مما يأكل إذا عمل بجوارحه وفِكْره في الأرض، وهذه مسئولية أولي الأمر والقائمين على إدارةِ شئون المجتمع وقيادةِ الأُمَّة؛ فزيادة الإنتاج بنجاحِ إدارة شئون العباد وحسنِ سياستهم؛ ولهذا نرى أممًا سابقت بقوة اقتصادها الأممَ الأُخَرَ بحسن قيادتها؛ كما في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية وما كان فيها مِن الهزيمة القاسية.

ولهذا جاءت في السنة النبوية أحاديثُ عديدةٌ تَحُثُّ على التكاثر والتناسل؛ إذ في كثرة الأولاد الخيرُ الدنيويُّ، ويباهي بهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأممَ يوم القيامة خاصة، وكذلك هذه الأمة في جهاد إلى يوم القيامة، وتتداعى عليها الأممُ في كل زمان؛ تتحين فرصةَ ضعفِها؛ لتستأصلَها أو تستأثرَ بخيراتها. ففي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ والودود: التي تحب الزوج وتحسن عشرته. والولود: كثيرة الوِلادة أو عندها استعداد لذلك؛ ويُعْرَفُ ذلك بخصوبةِ أُمِّها وأخواتِها وحُسْنِ تَبَعُلِهِنَّ لأزواجهن إذا كانت بِكْرًا، أو بتجربتها مع زوجها الأول إذا كانت ثـَيِّبًا. ووصف الولود صيغة مبالغة لا تطلق على مَن لها ولدٌ واحدٌ أو اثنان. وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنس -رضي الله عنه- وكان يعمل في خدمته؛ فقال: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ) (متفق عليه)؛ فكان مِن أكثر الصحابة وَلَدًا وعَقِبًا. ولو كان في كثرة الأولاد ما يرهقه ويفسد عليه دنياه ما دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدعاء.

وتحديد النسل: المراد به قصر عدد الأولاد في الأسرة على عدد محدَّد لا يُزاد عليه؛ كالاقتصار على ولد أو اثنين أو ثلاثةٍ مِن الأولاد في كل أسرة. فمن بلغت هذا العدد استخدمت مِن الوسائل ما يمنع حدوثَ أيِّ حمل، سواء كانت هذه الوسيلة تمنع الحمل منعـًا مؤقـَّتـًا أو منعـًا دائمًا.

وهناك دول تفرض هذا التحديد على رعاياها فرضًا؛ ولو بِعَقـْم الرجال! وهناك دول تكتفي بحرمان ما زاد عن العدد المحدَّد مِن الأولاد مِن مزايا إخوتِه؛ فلا يتعلم التعليمَ المجانيَّ، وتُحْجَبُ عنه العديدُ مِن الخدمات والرعايات التي تُقـَدَّم لغيره! وذلك لإجبار الآباء والأمهات على تحديد النسل مِن تلقاء أنفسهم.

أما تنظيم النسل: فيُراد به حَثُّ الزوجات على المباعدة بين الحمل والآخر بأطول فترة ممكنة باستخدام وسائلِ منع الحمل؛ بدعاوَىً متعددةٍ يُرَوَّج لها بين الزوجات لإقناعهن بذلك؛ فيساهم ذلك في تقليل أولادهن، وإن لم يبلغ مرحلةَ التحديد. وهي طريقة تطبَّق في الأوساط التي لا تستجيب الاستجابةَ المطلوبةَ لتحديد النسل؛ فيُستعاض عن تِلْكَ بهذه؛ مساهمةً في تقليل فرصِ الحمل والولادة وكثرةِ الأولاد. وغالبًا يُرَوَّج في الدول للطريقتين معـًا بحسب طبيعة الوسط الاجتماعي.

ولا يخفى أن هناك من الحالات الصحية والمرضية ما تحتاج معه المرأة إلى تحديد نسلها أو تنظيمه؛ كمرض الزوجة بمرض يتفاقم ضررُه بالحمل أو يهدد حياتها، أو تحتاج لتأخير الحمل بعد وِلادة قَيْصَرِيَّة يحتاج بعدها الرَّحِمُ -بعد شَقـِّه لاستخراج الجنين- لسنتين أو أكثر لاستعادة عافيتِه وقدرتِه على الحمل من جديد، ونحوِ ذلك... وهي حالاتٌ خاصة استثنائية يُقَرِّرها أهل الاختصاص، وهذه الاستثناءات لا يصح أن تُجْعَلَ ذريعةً لجَعْل الاتجاه العام داخل الدولة هو الدعوة إلى تحديد النسل وتنظيمِه، وتُسَخَّر له وسائلُ الإعلام المختلفة والأموالُ الطائلة.

والإسلام عندما يَحُثُّ أتباعَه على زيادة نسلهم وتكثيرِ عَدَدِهم إنما يريد بذلك قوةَ المجتمع، ولا يكون ذلك إلا بحسن تربية الأولاد، وتنشئتِهم نشأة طيبة، وحسنِ إعدادهم لنفع المجتمع؛ وهذه مسئولية الآباء والأمهات. إذ فـَقـْد هذه التربية يعني ضعفَ المجتمع، حتى وإن قَلَّ أفرادُه عَدَدًا، وكَثـُرَتْ ثرواتـُه كَمًّا! ولو أُحْسِنَ إعدادُ النشء لكانوا قوةً يُعتَدُّ بها، حتى وإن كان فقيرًا قليلاً.

وكلما أُحْسِنَ الإعدادُ وكَثـُر العَدَدُ كانت القوةُ والمَنَعَةُ في ازدياد؛ فزيادة العدد مطلوبة، وحُسْنُ التنشئة مطلوبٌ، وكِلا الواجبَينِ ينبغي الحرصُ عليه والإتيانُ به.

أما القلق الذي يُثار بأن زيادة السكان لا يقابلها زيادةُ إنتاج؛ فهذا تقصير وعجز مِن المجتمع ينبغي علاجُه بدوائه، لا بتحديد النسل وتقليله! والبشر ليسوا سلعةً مِن السلع تَخضَع للعرض والطلب؛ فيَزداد إنتاجُها في زَمَن ويُحَدُّ منه في آخر! وبلادنا -وغيرها- فيها مِن الخيرات والموارد والثروات الكثير مما جعله الله -تعالى- لعباده، ولكنه في بلادنا لا تُستغـَل الاستغلالَ الأمثلَ بتقصير مِنـَّا ونقصِ هِمَّةٍ وسُوء تدبير وإدارةٍ... وهذا لا يَخفى على مُتَأَمِّل!

فمصر التي أنعم الله علينا بالتواجد فيها حباها الله -تعالى- بمواردَ وخيراتٍ كثيرةٍ جدًّا... قديمًا وحديثـًا، وعُرِفـَت بذلك مِن قديم الزمان، وقد ذكر لنا القرآن الكريم كيف أن جيران مصر كانوا ينتفعون مِن خيراتها في أوقات مَجاعتهم؛ فيأتون إليها يأخذون منها كفايتَهم؛ فهذا نبيُّ اللهِ يوسفُ -عليه السلام- يقول لإخوته -وهو عَزيز مصر، وهم يطلبون الميرة لأهلهم-: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (يوسف:59).

وها هو الإمام السيوطي يذكر في كتابه "حسن المحاضرة": "إن مصر كانت على جانبي النيل مُدُنـًا متقاربة كأنها مدينة واحدة، والبساتين خلف المدن متصلة كأنها بستان واحد، والمَزارع مِن خلف البساتين"، "وأن المرأة على جانبي النيل كانت تخرج حاسرة -أي كاشفة رأسها- لا تحتاج إلى خمار لكثرة الأشجار، وأنها كانت تضع على رأسها المِكْتل فيمتلئ بالثمَر مِن كثرة ما يتساقط مِن الشجر"، فما بَخِلَتْ أرضُ مصرَ بعطائها إن كان في أهلها الهمةُ والعملُ والإنتاجُ، لا التقاعسُ والخُمولُ وإضاعةُ الأراضي الزراعيةِ وإهمالُ الثرواتِ والمَواردِ.

ولننظر إلى بلادنا على ما نحن فيه: كم هي كثيرةٌ الثرواتُ والمواردُ تحتاج إلى مَن ينتفع بها! فهذه الصحراء الشاسعة بِطاقتها الشمسية، وهذه الأراضي في الصحراء الغربية والساحل الشمالي مما كان يُزرَع في عهد آبائنا الأقدمين، ثم تَصَحَّرَتْ! وكانت تـُنتِج الحبوبَ والمحاصيلَ بوَفرة! وتحتاج الآن إلى مَن يُعيد استصلاحَها وزراعتَها. ومعلومٌ أن أكثر من 90% من أرض مصر غيرُ مأهولة، ويَتَرَكَّز عشراتُ الملايين مِن السكان على شَريط ضَيِّق على ضِفاف النيل؛ جعلت أرضه الزراعية للبناء والعمران، لا للزراعة والإنتاج! ويؤكد الخبراء أن أرض سيناء يمكن أن تَستوعب أكثرَ مِن مليونين مِن السكان يقومون بزراعة المساحات الكبيرة فيها بمياهها الجوفية، إلى جانب استخراج ثرواتها المعدنية وموادها الخام الوفيرة، إلى جانب العمل في استخراج البترول ومشتقاته.

وما ذكرناه قليلٌ يَعرِفه القاصي والداني، وهناك تفاصيلُ كثيرةٌ يَعلمها أهلُ الاختصاص كُلٌّ في تخصصه؛ خاصَّةً مع التقدم العلمي المُذهِل في ميادين الزراعة والصناعة والإنتاج الحيواني والهندسة الوراثية؛ الذي يزيد مِن الإنتاج ويُضاعفه. فكيف عَجَزَتْ عقولـُنا وهِمَمُنا عبر عقود طويلة عن اقتحام هذه الميادين الفسيحة! واكتفينا ببذل الوقت والجهد -ونحن في أماكننا لا نتحرك- مِن أجل تقليل السكان والحَدِّ مِن النسل! ونرى في ذلك عِزَّنا وقـُوَّتَنا! فلم نـَجْنِ إلا الأوهامَ والأمانيَ الزائفة.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية