السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

قيمة الحياة في أهدافها

قيمة الحياة في أهدافها
الأحد ٢١ مارس ٢٠١٠ - ١٤:٠٠ م
11

قيمة الحياة في أهدافها

كتبه/ أحمد السيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمقدار نجاح الإنسان في حياته على كل المستويات يتحدد بكم الأهداف التي قام بتحقيقها، وكلما كانت هذه الأهداف سامية كان أكثر نجاحًا؛ فقيمة هذه الحياة الحقيقية في مقدار ما نحقق من أهدافنا، وأن تكون لنا أهداف حقيقية فلا نعيش هملاً دون أهداف، والمسلم في هذه الحياة أهدافه سامية مشروعة يسعى إليها، ويؤمن بها ويحرص عليها، ويضحي من أجلها -لا سيما الداعية إلى الإسلام-، ونوضح هذا الإجمال في الكلام إلى نقاط مهمة غير قاصدين الاستيعاب؛ ولكن إشارة بعد إشارة لتلمس المقصود:

1- معرفة الهدف:

لم يخلق الله -عز وجل- الحياة عبثـًا ولم يوجـِد الإنسان هملاً، قال -تعالى-: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115)، وقال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).

فلا بد أن يجعل الإنسان لكل وقت من حياته هدفـًا، ولكل عمل غاية، وأن يضبط حياته على هذا الأساس، ولو تأملت في سير الناجحين في الحياة لرأيت أن النجاح في حياتهم بمقدار ما كانوا يرسمون لحياتهم من أهداف.

قال الحسن البصري عن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله-: "ما ظننت عمر خطا خطوة إلا وله فيها نية".

وكان معاذ -رضي الله عنه- يقول: "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي".

والأهداف في حياة الإنسان تنقسم إلى قسمين:

1- أهداف كبرى كلية دائمة أو أهداف (إستراتيجية) كما يقال.

2- أهداف صغرى جزئية مرحلية أو ما يسمى أهدافـًا (تكتيكية).

ولا بد أن تكون الأهداف الصغرى خادمة للأهداف الكبرى ودائرة في فلكها ووسيلة لها وطريقًا للوصول إليها.

وأكبر هدف وأعظم غاية وأسمى مقصد يمكن أن يسعى له الإنسان في الحياة هو السعي لرضوان رب العالمين بالوسائل التي شرعها الله لذلك.

وهكذا كل عمل تزمع القيام به لا بد أن يسبقه بلورة هدف أو أكثر لهذا العمل، وتقوم بعملية ترتيب لها حسب أهميتها، ثم تقسم وقت العمل لتحقيقها مُرتَبة، ثم في نهاية العمل تنظر كم نسبة ما أنجزته من أهداف العمل إلى مجموعها.

والهدف الذي يخصنا في المجال الدعوي الذي نحن بصدده:

عام: السعي لرضوان الله رب العالمين.

عام: تعبيد الخلق للخالق وإقامة دين الله في الأرض بين الناس.

عام: إقامة الحجة والإعذار إلى الله.

وكل ما يتأتى بعد ذلك فهو أهداف خادمة تخدم هذه الأهداف العامة، وجميع وسائل الدعوة الفردية وكل شيء يتعلق بها وجميع جزئياتها وسائل مرحلية لتحقيق هذه الأهداف العامة.

2- الاقتناع والإيمان بالهدف والعمل لتحقيقه بصدق:

- الإيمان بالدعوة.

(الإيمان بالفكرة - الاقتناع بالهدف والإيمان به - استشعار الثواب).

إن الإيمان هو الدافع المحرك للقوى الكامنة في نفس الإنسان؛ فالإيمان بالله يجعل المؤمن في شوق دائم للعمل يما يرضيه، ويحرك في قلبه عوامل الخير ليحقق غايته، والإيمان باليوم الآخر يرفع الإنسان إلى تفضيل أعمال البر على غيرها؛ ليثقل ميزانه حتى لا يطيش في يوم الهول والفزع، ويجعله حريصًا على نفسه وتحسينه قبل أن يأتي يوم لا يمكنه فيه تبديله أو تحسينه، ويزهده في الدنيا حتى لا يستكثر منها فيطول حسابه في هذا اليوم العسير.

هكذا يدفع الإيمان صاحبه إلى تحقيق غايته التي آمن بها وإلى إخلاص العمل ليحصِّل غايته التي يعمل لها؛ هذا الإيمان يدفع صاحبه بحماس منقطع النظير إلى أن يدعو الناس إلى الإسلام بثقة واطمئنان، وأن يحثهم على اتباعه والتمسك بهديه، والعمل الدائب الجاد لنصرته.

هذا الإيمان لا يترك صاحبه يهدأ حتى يرى الناس قد دخلوا في دين الله أفواجًا.

هذا الإيمان لا يرتاح لصاحبه بال حتى يرى راية الإسلام عالية خفاقة في كل مكان.

أما الدعاة المحترفون والمتجردون من هذا الإيمان فلا يحققون شيئـًا.

والفرق بين الصنفين واضح بيِِّن، فالصنف الأول يؤثر بأسلوبه المملوء بالإيمان وبطريقته المشحونة باليقين؛ فيسير الناس تبع إرشاده، ويسلكون السبيل الذي يسلكه، ويسخـِّرون كل ما يملكون لنصرة الحق ونشره بين الناس.

أما الآخرون فإن كلامهم يدخل من أحد الأذنين ليخرج من الأخرى؛ فلا ينفعل به الناس ولا يكاد يصل إلى آذانهم حتى يتساقط تحت أقدامهم، وأنى له الطريق إلى قلوبهم؟!

فلا بد للداعية أن يكون هو أول من يؤمن بما يقول ثم يترجم هذا الإيمان إلى عمل.

يقول أحد الدعاة -رحمه الله-: "إن المبادئ والأفكار في ذاتها بلا عقيدة دافعة مجرد كلمات خاوية أو على الأكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المشعة من قلب الإنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع.

آمِن أنت أولاً بفكرتك، آمِن بها إلى حد الاعتقاد الحار! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون؛ وإلا ستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة! لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان ولم تصبح كائنـًا حيًّا دب على وجه الأرض في صورة بشر! كذلك لا وجود لشخص في هذا المجال لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص، إن التفريق بين الفكرة والشخص كالتفريق بين الروح والجسد أو المعنى واللفظ؛ عملية في بعض الأحيان مستحيلة وفي بعض الأحيان تحمل معنى التحلل والفناء!

كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان! أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدس فقد ولدت ميتة، ولم تدفـَع البشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام!

فلا بد من وجود رغبة ومثير وحافز لدى الداعي الذي هو مصدر الدعوة، وهذا يستدعي أن يكون له هدف واضح، هذا الهدف ينبغي أن يكون مرغوبًا فيه وإلا كانت عملية الدعوة باهتة، وعليه فلا بد أن يكون الداعي مؤمنـًا بهدفه بقوة قد خالط لحمه ودمه، فتكلم عنه قلبه قبل لسانه وعبرت عنه كل ذرة في كيانه، وكلما كان الإيمان بالهدف أشد كان التحريض على تبليغ الدعوة أكمل وأبلغ.

ولهذا لما سُئل عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: لماذا يجلس الناس إلى بعض الوعاظ والمرشدين فيتأثرون بهم، ويبكون بين أيديهم، تصل الكلمة إلى آذانهم فتسلك طريقها إلى قلوبهم فتستقر فيها، وتترجمها جوارحهم عملا خيّرًا رشيدًا يصدق ما في قلوبهم، فإذا جلسوا إلى آخرين وذكـَّروهم بمثل ما ذكرهم به الأولون وقد يكون الأسلوب أجود، والألفاظ أحلى والأداء مثيرًا، ومع كل هذا فإنهم لا يتأثرون ويقومون من مجالسهم وكأنهم لم يكونوا فيها؟

أجاب ابن المبارك السائل: "ثكلتك أمك، النائحة المستأجرة كمن تبكي ولدها"؟!

ولهذا قالوا: "ليست النائحة المستأجرة كالثكلى".

وقالوا: "ما خرج من القلب وصل إلى القلب وما خرج من اللسان لم يصل إلى الآذان".

ولنتذكر هنا موقف الصحابي ربعي بن عامر مع رستم حين سأله: ما الذي جاء بكم؟ فقال في عزة وإيمان بالفكرة واقتناع بها أثرت في رستم: "الله ابتعثنا لِنـُخرج العبادَ من عبادة العبادِ إلى عبادة رب العباد..." إلخ القول.

وقرين ذلك يلازمه ويفارقه "التحرك الذاتي"؛ فلا ينبغي للأفراد أن يكون تحركهم ونشاطهم ناتجًا عن تأثرهم بالمربي وشخصيته، وإنما يجب أن يكون نابعًا من ذاتيتهم وإيمانهم بضرورة العمل، فهذا من شأنه أن يحفظ عليهم عطاءهم وبذلهم مهما تغيرت الظروف وتبدلت، لذا يجب على المربي أن ينتبه لذلك ويغرس في نفوس الذين يعملون معه دافع الذات والإيمان.

3- الحرص:

حرص الداعي على دعوته وعلى فكرته والتشبث بها وعدم التنازل عن مبادئه واقتناص فرص تبليغها والوصول لأهدافها، وكذلك لا بد أن يشعر المدعو بحرص الداعي عليه، فهذا الشعور يفتح قلبه ويثير عواطفه فإذا به أذن صاغية لما يسمع؛ ولذلك وجدنا القرآن يُذكـِّر أهل مكة بهذه الصفة التي برزت في تعامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة:128).

والداعي إلى الله قد يشتد حرصه على من يدعو، ولكنه لا يتلهف على نتائج عمله وثمرة جهده (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) (الشورى:48).

وقد يحزن لانصراف الناس عنه وبُعدهم عن دعوته، ولقد غمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعور (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف:6).

والحقيقة أن الداعية الصادق المخلص لله رب العالمين يصاب بالألم والحسرة حين يرى الصد والاستهزاء لدعوته، وهو يؤمن إيمانًا لا يشوبه شك ويقينًا لا يخالطه ريب بأن دعوته دعوة الحق، وأن طريقه هو الصراط المستقيم، فعليه أن يتذكر قول الله وهو يدعو (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ . أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ . فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف:41-43)، ومع هذا الذي يتعرض له لا بد أن يُشعر من يدعوهم بالحرص عليهم.

4- التضحية والبذل:

ومعنى ذلك: أن يجود الداعية بكل ما يملك من نفس ومن وقت ومن علم ومن مال حتى يحوز ثقة الناس من ناحية، وحتى يؤثر فيهم وبسرعة من ناحية أخرى.

وحسبنا تضحية النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل شيء حتى كتب الله لدعوته النجاح والخلود، وكذلك سائر المسلمين المجاهدين إلى يومنا هذا.

وليس من الممكن أن يتصور عمل من أجل الإسلام يحقق أهدافه دون أن تكون معه تضحيات وبذل وعطاء، وتضحيات بالوقت والجسد وتضحيات بالمال في سبيل الله.

وما عرف المسلمون في ماضيهم عملاً جليلاً نجح وحقق أهدافه دون أن يكون معه تضحيات متعددة؛ فإن الأعمال الكبرى في تاريخ المسلمين كالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وبناء الحضارة الإسلامية ومد رواقها على كثير من بلدان العالم الإسلامي والنهضة العلمية والفنية التي حققها المسلمون في مختلف فترات تاريخهم، كل ذلك ما تم بغير تضحيات، وبذل للوقت والجهد والمال، وابتغاء وجه الله في هذه التضحيات.

ولن يعرف المسلمون في حاضرهم ولا في مستقبلهم عملاً ناجحًا في مجال الدعوة والحركة وكل عمل من أجل الإسلام؛ إلا إذا كانوا مستعدين تمامًا للتضحيات من أجل ذلك بالوقت والجهد والمال، تلك سُنة مضت، وهي سنة حاضرة ماثلة أمام أعيينا، وهي في ذات الوقت سنة العمل الإسلامي في المستقبل.

وقد يوسوس الشيطان -وتلك مهنته- لبعض الغافلين بأن هذه التضحيات انتقاص من حظه في الحياة، ويُحسِّن له أن يوظف وقته وجهده وماله لصالحه هو وحده، وهي والله همزة شيطان رجيم؛ فمن ذا الذي يدعي أنه يملك وقته وجهده وماله على وجه الحقيقة؟

إنها على وجه الحقيقة عَوَارٍ مُسْتـَرَدَّة؛ لأن كل ما نملك من معنويات وماديات هي في الحقيقة منح من الله -تعالى- لنا، وهو وحده القادر على أن يبسط فيها ويقدر، أو يعطي ويحرم وهي كما قلتُ عوار مستردة فكيف يتحامق المستعير فيتصور أنه صاحب ملك؟!

وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة وأن الله هو المالك الحقيقي لكل شيء وهو المنعم به على عباده؛ فإنه -سبحانه- من باب التفضل علينا وعلى آبائنا وعدَنا بأنا لو بذلنا من هذه الأشياء شيئـًا في سبيله أعطانا في مقابله الأجر وأجزل الثواب، أعطانا الجنة وهي غاية ما يطمح إليه المؤمن في أخراه؛ فقد قال -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111)، وذلك هو البيع الرابح كما قال أسلافنا -رضوان الله عليهم- في وصف البيع.

وليتذكر الداعي أن الإسلام لم يَصِله لولا التضحيات؛ فلينتظمْ في سلك خير قوم ضحوا بالغالي والرخيص في سبيل إيصال الدين، وفي سبيل الدين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية