الأحد، ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مرجعية المؤسسات الدينية

مرجعية المؤسسات الدينية
السبت ٠٨ مايو ٢٠١٠ - ١٤:٢٠ م
11

مرجعية المؤسسات الدينية

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمصطلح "المرجعية" أحد المصطلحات الشائعة في عالم الأفكار والمناهج الديني منها وغير الديني، ولكنه يأخذ دلالة واضحة وقاطعة وملزِمة في نطاق الديانات المحرفة: كالنصرانية، والديانات الأرضية: كالبوذية.

وبعيدًا عن الخلاف النظري بين طوائف النصرانية في مسألة عصمة "البطريرك" أو "البابا" -كما يلقبونه-؛ فإن كل طائفة تـُعطي لرأسها سلطات واسعة، منها: "نسخ" الشريعة الذي وقع مرارًا من "الباباوات" مع أن القوم يستنكفون من مسمى النسخ! بل بلغ الأمر إلى نسخ العقائد والأخبار -وهو مما لا يدخله النسخ-، كما برَّأ بابا الفاتيكان اليهود من دم المسيح مع أنه لم يغيِّر الرواية الإنجيلية لواقعة الصلب المزعومة!

وهذه الصفة متأصلة في هذه الديانات المحرَّفَة، أثبتها القرآن عليهم في قوله -تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31)، وفسَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لعدي بن حاتم -رضي الله عنه- في ثنايا دعوته إياه للإسلام بقوله: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟). قال: قُلْتُ بَلَى، قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي و البيهقي، والطبراني واللفظ له، وحسنه الألباني).

وقد أخذت الشيعة فيما أخذت عن النصرانية مسألة المرجعية الملزمة لعلمائهم لا سيما مع عقيدة التقيَّة التي تجعل الرجل العامي الشيعي منعدم المرجعية الشخصية؛ حتى لو نُقل من النقيض إلى النقيض فالتفسير موجود وهو: أن أحد القولين إن لم يكن كلاهما تقية! ولا أظن أن الرجل العامي الشيعي يهمه أن يعرف حقيقة المذهب في أي مسألة كانت من التقية مما يعوزه دائمًا إلى مراجعة "مرجعياته المذهبية".

بل إذا انقطعت الصلة بينه وبين مرجعياته المذهبية فليس أمامه سبيل لكي تكون له مرجعية شخصية من علم يتعلمه، وإنما أرشدته مرجعياته إلى أن يسأل علماء أهل السنة ويخالفهم.

هذا هو حال الديانات المحرفة والمذاهب الإسلامية المتأثرة بهم، ولكن أليس لدى أهل السنة مرجعيات هم أيضًا: كالأئمة الأربعة في الفقه، وأصحاب الكتب الستة في الحديث ومعهم علماء الجرح والتعديل، وفي كل الميادين يوجد علماء أعلام مثـَّلوا "مرجعيات" لغيرهم من العلماء فضلاً عن العوام، وهذا ما أرشد إليه القران بقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)؟!

بل إن تَميُّز كل عالم بعلم أو بأبواب من العلم عُرِف في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ودعا -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني، وهو في الصحيحين دون قوله: (وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ).

بيد أنه وبغض النظر عن الاصطلاح؛ فإن رجوع أهل السنة لعلمائهم يختلف تمامًا عن تلك المرجعيات التي ذكرنا شأنها عند الملل والمذاهب المنحرفة.

ويمكن إجمال أبرز نقاط الاختلاف فيما يلي:

1- أن الحكم والتشريع والأمر والنهي مرده كله إلى الله (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (يوسف:40).

2- أن طاعة الرسول واجبة دون الإخلال بأن الحكم لله؛ لأنه معصوم فيما يبلغ عن الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (النساء:80)، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم:3).

3- أن الدعوة موجَّهة إلى الجميع لِتعلُّم أكبر قدر ممكن من العلم كل حسب قدرته، (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) (رواه البخاري)، وهذه النقطة تمثل نقطة فارقة بين منهج أهل السنة وبين تلك المناهج المنحرفة حيث تحرص هذه المناهج على تجهيل الأتباع وفصلهم عن مصادر التلقي الأصلية الخاصة بتلك المناهج؛ ليبقوا دائمًا في دائرة التبعية العمياء للمرجعيات إلى الدرجة التي كانت فيها الأناجيل غير مسموح بتداولها بين عوام النصارى حتى وقت قريب.

4- عندما يتعرض الإنسان لمسألة لا يدريها حينئذٍ يسأل أهل العلم: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

5- ومع هذا فالأجود أن يكون السؤال للتعلم والعمل وليس للعمل فقط، وذلك عن طريق السؤال عن الدليل، بل طبَّق الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أعني بذلك أنهم سألوه -صلى الله عليه وسلم- عن الدليل إذ كلامه حجة، ولكن أعني أنهم لما استشكلوا بعض كلامه استفسروا وسألوا سؤال المتعلم كما في حديث: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟! قَالَ: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري ومسلم)، وكما في حديث: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: (إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) (رواه البخاري ومسلم، وابن ماجه واللفظ له).

6- بالإضافة إلى ذلك فقد قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفتوى المخالفة للدليل يجب أن تُرد كما في قصة العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره.

7- وحتى عندما أساء البعض تطبيق هذه القاعدة لم ينكر عليهم الصحابة أصل السؤال عن الدليل، ولكن أرشدوهم إليه كما في قصة المرأة التي أتت ابن مسعود -رضي الله عنه- فقالت: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِيَ لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَي الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7) (متفق عليه).

8- كان هذا هو الشائع في زمن الصحابة -رضي الله عنهم- حيث لم يكن الفارق كبير بين جمهورهم وبين علمائهم فكان السؤال والجواب لا يكاد يخلو من ذكر الدليل، ولكن لما اتسع البون بين العامة والعلماء في زمن الأئمة الأربعة؛ بالغ الأئمة في حث أتباعهم أو على الأقل تلامذتهم على الحرص على معرفة الدليل، كما حثوهم من باب أولى على ترك أقوالهم المخالفة للدليل.

وفي ذلك يقول أبو حنيفة -رحمه الله-: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه". ويقول: "إذا قلتُ قولاً يخالف كتاب الله -تعالى- وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي".

ويقول مالك -رحمه الله-: "ليس أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-".

ويقول الشافعي -رحمه الله-: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد من الناس"، ويقول: "كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي".

ويقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا".

9- مع نهي العلماء الأجلاء عن تقليدهم مع عظم حرصهم على اتباع السنة تبرؤوا من أي خطأ قد يكونوا وقعوا فيه؛ فإنهم من باب أولى اشتد نهيهم عن مصاحبة أهل البدع أو الأخذ عنهم بأي صورة من الصور.

10- بيد أنه مع طول العهد وانتشار الفتن، واختلاط الحابل بالنابل وُجد بعض من يكون ثبتًا في باب مخلطًِا في آخر ككثير من الفقهاء الذين مالوا إلى مذهب الأشاعرة في الصفات أو في غيرها مع علو شأنهم في: الفقه أو الحديث أو التفسير أو غيره.

وهنا ظهرت مدى مرونة منهج أهل السنة وتحقيقه للخير فمع بقاء ووضوح المرجعية العليا التي هي الكتاب والسنة أمكن أن يستفاد من كل أحد في العلوم التي التزم فيها بهذا الفهم مع تركه في غير هذا الباب، بل اتسع المقام للاستفادة من الخير الذي عند بعض رؤؤس البدع المشربين حبها: كالزمخشري المعتزلي، والرازي الأشعري المتفلسف، وغيرهما...

11- ومن هذا المنطلق أبرز شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا المنهج في التعامل مع العلماء الذين لم يلتزموا بالمنهج السلفي في كل الأبواب.

12- وإذا كان هذا هو المنهج في التعامل مع الآحاد فهل يختلف الأمر بالنسبة للجماعات أو الهيئات؟

في الواقع أن ما من تجمع ما إلا وهناك قدر مشترك بين جميع أفراده يمثل الأسس التي قام عليها هذا التجمع وقد يكون الالتزام بالأسس النظرية لبعض التجمعات مُطَبـَّق من الناحية العملية بصرامة شديدة، كما توجد درجات من التهاون في تطبيق هذه الأسس العملية تصل في بعض الأحيان إلى وجود من يعتنقون مبادئ مصادمة لمبادئ الكيان الذي ينتمون إليه!

ومن ثمَّ فالقاعدة في التجمعات هي نفس القاعدة في الأفراد مع أخذ النقطة السابقة في الاعتبار مما يقتضي في معظم الأحوال العدول عن اتخاذ موقف موحد من أعضاء هيئة ما إلى معاملة كل فرد منها كحالة مستقلة.

ولنطبق ذلك على مثالين:

الأول: جماعة الإخوان المسلمين والتي قامت على قاعدة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، ومن ثمَّ فمن المتوقع أن تجد تباينًا بين أفرادها يصعب معه أن تعمم حكمًا واحدًا على الجميع.

نعم قد تأخذ علي هذا الاتجاه ككل قبوله بهذه القاعدة؛ بيد أنك ستفاجئ بأن البعض يشط في تطبيقها إلى تطبيقها على الشيعة بل على الغلاة منهم، بينما يكاد يحصرها بعضهم في دائرة الخلاف السائغ؛ مما يجعلها موافِقة لمنهج السلف في التعامل مع الخلاف.

ولا نريد أن نستطرد كثيرًا في هذا المثال؛ لنفسح المجال أكثر لمناقشة المثال الآخر حيث يمثل بيت القصيد من هذه المقالة وهو: "الأزهر"، حيث خرجت أصوات من داخل الحركة إسلامية تدعو أبناء الصحوة الإسلامية أن يقبلوا بالأزهر كأعلى مرجعية سنية في العالم في مواجهة المرجعيات الشيعية، ولام بعضهم جماعات الصحوة بصفة عامة والسلفيين بصفة خاصة على رفضهم لهذه المرجعية وعدم اعتدادهم إلا بعلمائهم.

ونحن بعد استحضار كل ما سبق تقريره آنفـًا نعود ونقرر النقاط التالية:

1- الدعوة إلى اعتبار الأزهر أعلى مرجعية سنية مصادم لمنهج أهل السنة الذين مرجعيتهم العليا هي: "الكتاب والسنة"، وشعارهم: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

فلا يبقَ مقام والحالة هذه إلى وجود مرجعيات بالمعنى المراد من هذه الكلمة عند الإطلاق، لاسيما إذا أطلقت في مواجهة المرجعيات الشيعية.

2- إن الدعوة إلى اعتبار الأزهر أكبر مرجعية سنية في العالم أمر لا يخلو من عصبية قومية تقابلها عصبية كل بلد إسلامي لمؤسساته الشرعية: كـ"جامعة الزيتونة" في "تونس"، أو "لجنة الإفتاء" بـ"السعودية".

3- من نافلة القول أن نشير إلى أن البعض يظن أن السلفيين يعتبرون "لجنة الإفتاء بالسعودية" مرجعية عليا وهذا غير صحيح؛ فقاعدة: "كل يؤخذ من قوله ويترك" تُطبَّق على الجميع، وإن كانت فتاوى لجنة الفتوى هناك لها وجاهتها باعتبارها فتوى جماعية من عدد من العلماء الملتزمين بالمنهج السلفي في: العقيدة، والفقه، ومع ذلك فقد كان للدعوة مواقف تثبت أنها تتعامل مع الجميع بقاعدة: "كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

فمن بعض هذه المواقف:

أ- اتسام موقف الدعوة السلفية من قضية العذر بالجهل بالوضوح التام بخلاف فتاوى لجنة الفتوى بالسعودية والتي استصحبت أحيانًا واقع السعودية وانتشار العلم بالتوحيد فيها، واستصحبت أحيانًا واقع البلاد التي ينتشر فيها الجهل.

ب- تبني معظم شيوخ الدعوة للقول بعدم كفر تارك الصلاة خلافـًا لمعظم فتاوى اللجنة، مع إثبات أن هذه المسألة مما يسع فيها الخلاف.

ج- تبني الدعوة لموقف مغاير للجنة الفتوى في السعودية من الاستعانة بالأمريكان في حرب الخليج الأولى.

د- تبني معظم شيوخ الدعوة للقول بحرمة "التورق" خلافـًا لمعظم فتاوى اللجنة.

والأمثلة لا تُحصى كثرة...

4- أما فيما يتعلق بالأزهر؛ فعلى الرغم من القبول العام لمناهج الأزهر في: الفقه، والتفسير، والحديث، وغيره من العلوم الشرعية إلا أن اعتماد الأزهر في دراسته في مراحله المختلفة لعقيدة الأشاعرة يمثل أحد أبرز نقاط الخلاف من الناحية النظرية بين المنهج السلفي والأزهر، مع الاعتراف بوجود اختلافات فردية متفاوتة بين شيوخ الأزهر في مدى التزامهم بالمنهج الأشعري سوف نشير إليه لاحقـًا.

5- كما أن هناك مواقف فردية لبعض رموز الأزهر رُوجت إعلاميًا على أنها من ثوابت الأزهر تمثل هي الأخرى إحدى أهم نقاط الخلاف، كمسألة: القبول بالمذهب الشيعي كمذهب فقهي خامس -المنسوبة إلى الشيخ شلتوت- مع الأخذ في الاعتبار أن المنهج الأشعري الذي يتبناه الأزهر رسميًا في خصومة شديدة مع المنهج الاعتزالي الذي يتبناه الشيعة الإثنى عشرية في مجمل عقائدهم، فضلاً عن انحرافاتهم الخاصة في باب الصحابة والإمامة.

6- كما أن مواقف متأخري الأزهريين من قضية أهل الذمة ينسبها الإعلام إلى الأزهر ككل، وفيها من الأقوال التي لا مستند لها من أي مذهب من المذاهب، ومن أمثلة ذلك: أن الدكتور "علي جمعة" ذكر في فتوى له أحد الأحكام المستقرة في كتب فقه الأئمة من عدم جواز التبرع لبناء أماكن المعصية: كأماكن اللهو، والكنائس؛ فاعترض بعض النصارى الذين ازداد طمعهم في الرقابة على الفتاوى التي يفتي بها علماء الدين المسلمين سائليهم، وتطوع الدكتور "طنطاوي" بتخطئة تلك الفتوى، وزعم جواز تبرع المسلم ببناء كنيسة! ونُسِبَ هذا القول إعلاميًا إلى الأزهر كمؤسسة، وليس إلى الدكتور "طنطاوي" كفرد.

7- وبالإضافة إلى الفتاوى الفردية التي تم اعتمادها بصورة أو بأخرى كموقف رسمي للأزهر؛ فإن اتخاذ أي عالم أزهري لموقف مغاير للمناهج النظرية المعتمَدة في الأزهر لا ينفي عنه صفة الأزهرية مما يُصعِّب من إطلاق وصف المرجعية على علماء الأزهر، وهذه المواقف بعضها يكون في الاتجاه الصحيح وبعضها على العكس من ذلك.

فمن الانحرافات التي أتى بها بعض رموز الأزهر "وهي خروج عن منهج الأزهر ذاته":

أ- انحراف بعضهم من المنهج الأشعري إلى المنهج المعتزلي لا سيما مع وجود حالة انبهار أزهرية بتفسير "الكشاف" للزمخشري؛ مما جعله مادة لمئات الرسائل الجامعية الأزهرية، ومعظمهم لا يتوقف عند حد إعجابه بلفتاته الأدبية حتى يجعله إعجابًا بمنهجه المعتزلي كاملاً.

ب- انحراف بعض رموز الأزهر الكبار إلى القبول بالصوفية الفلسفية كصوفية ابن عربي وغيره، رغم أن ابن عربي كثير السخرية من الأشاعرة، ومن السلف الذي يسميهم: "بالمجسِّمَة"، ورغم صدور موقف جماعي من إحدى الهيئات الأزهرية وهو "مجمع البحوث الإسلامية" بأن كتب ابن عربي تحتوى على كفر صريح.

ج- ميل بعض شيوخ الأزهر إلى الإرجاء الفلسفي وهو أكثر خطورة من الإرجاء الذي عليه جمهور والأشاعرة لا سيما الفقهاء منهم، كما يتضح هذا في ردهم على كتاب: "الفريضة الغائبة"، ومحاولة مقابلتهم دعوة الغلو في التكفير بدعوة الغلو في الإرجاء.

7- وفي المقابل نجد أن بعض علماء الأزهر له مواقف في الاتجاه العكسي بترك منهج الأشاعرة إلى منهج أهل السنة أو الوقوف في منتصف الطريق، وهو أمر دون المطلوب، ولكنه أفضل من الثبات على منهج الأشاعرة.

ا- ومن أمثلة من رجع إلى منهج السلف الدكتور "محمد خليل هراس" -رحمه الله-، والذي كان في يوم من الأيام عميد كلية أصول الدين في الأزهر، والذي سجَّل لنيل درجة الدكتوراه في نقد موقف "ابن تيمية" -رحمه الله- في الإلهيات انتصارًا للعقيدة الأشعرية؛ فانتهى به المقام إلى أن خرجت رسالته بعنوان: "باعث النهضة الإسلامية ابن تيمية السلفي"!

8- وممن اتخذ موقفًا "أكثر مرونة" من المنهج السلفي الإمام "محمد أبو زهرة" أحد أبرز أعلام الأزهر في العصر الحديث -إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق-، وله دراسة حول شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-، أنصف فيها منهج "شيخ الإسلام"، ولكنه دافع في النهاية عن منهج الأشاعرة في باب الصفات مرجحًا إياه على منهج "ابن تيمية" الذي هو من وجهة نظرنا هو عين منهج السلف. بيد أن الشيخ "أبو زهرة" لم يخفِ رؤيته بأن منهج "ابن تيمية" في القـَدَر أقرب إلى المنقول والمعقول في آنٍ واحد.

8- ويبدو أن مثل هذه الدراسات قد أثَّرت بصورة أو بأخرى على كثير من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأزهرية الذين يمزجون في تناولهم لهذه القضية بين منهج السلف ومنهج الأشاعرة.

9- وزيادة على كل ما تقدم فإن الأزهر مؤسسة تعليمية لا تستطيع أن تقوم برقابة سلوكية على جميع أفرادها في جميع مراحلها مما يُصعِّب من مهمة اعتماد المرجعية؛ فعدد كبير من موظفي لجان الفتوى في الأزهر الذين يُفترض أن يفتوا الناس وفق ما تعلموه من قضايا الفقه بيد أن كثيرًا منهم دون المستوى الفقهي أو السلوكي إلى الحد الذي قد يدفعه إلى تغيير الفتوى إذا أُهدي بهدية أو نحوها، ويزداد الأمر خطورة إذا تعلق الأمر بالأعراض كما في مسائل "الطلاق"، وهذه ظاهرة لا يمكن ادعاء عمومها كما لا يمكن تصويرها على أنها حوادث فردية.

10- كما أنه توجد قضايا ساخنة كثيرة في غاية الأهمية لا تستطيع أن تنسِب إلى الأزهر فيها منهجًا كقضية: "الموقف من البدع الإضافية" الذي تمتلئ وسائل الإعلام بمواقف تأييد لها من علماء أزهريين في حين أن كتاب: "الإبداع في مضار الابتداع" للشيخ "علي محفوظ" كان هو المنهج الرسمي المعتمَد للتدريس في الأزهر يومًا ما، وهو من أفضل الكتب التي نصرت السنة وردت البدعة؛ الإضافية وغير الإضافية.

وبالتدبر في هذه النقاط وغيرها يتبين لنا: أن الموقف من الأزهر ينبغي أن يكون كالموقف من غيره، يؤخذ منه ما وافق الحق ويرد غيره، وأن الدعوة تأخذ من علماء الأزهر كل في مجاله الذي وافق فيه الحق؛ لاسيما أعلامهم المدافعين عن السنة كمحدث الديار المصرية: "أحمد محمد شاكر"، و"مناصر عقيدة السلف" الدكتور "محمد خليل هراس"، و"رافع راية السنة" الشيخ "على محفوظ".

كما يستفيدون أيضًا من جهود من أصاب في باب وأخطأ في آخر كالعلامة الفذ في الدراسات الفقهية والمجتمعية "أبو زهرة"، وكالشيخ "الشعراوي" في جهوده الرائعة لتقريب قضية إعجاز القران، والشيخ "عطية صقر" في فتاويه الكثيرة التي وقفت غصة في حلوق العلمانيين، وكذلك فتاوى الدكتور "نصر فريد واصل" -حفظه الله-.

هذا بالإضافة إلى تعلم القرآن على أيدي حفاظ الأزهر ومتقنيه الذين يقر لهم القاصي والداني بإمامتهم في باب قراءة القرآن وتجويده، وضبط كتابة مصاحفه.

وأما كون أتباع المنهج السلفي لا يعتبرون إلا آراء رموزهم فهي تهمة يمكن أن يتهم بها كل الاتجاهات حيث تمثل اتباع التلميذ لشيخه سنة كونية لا تكاد تتخلف، ولكن النظر في سلوك الشيخ أو الرمز: هل يفعل كالمتقدمين فيأمر الأتباع أن يتعلموا الدليل ويعلمهم إياه؛ بحيث تتكون عندهم البصيرة، بل ربما أسهموا فيما بعد في تصحيح رؤية شيوخهم لبعض الأمور كما كان الشافعي يقول لأحمد -رحمهما الله تعالى-: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به، أي شيء يكون : كوفيًا أو بصريًا أو شاميًا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا"؟ أو يعلِّم أتباعه ألا يقرؤوا ولا يتعلموا إلا من نافذته؟!

هذا وقد يحاول البعض أن يتبرأ من هذا الفعل فيأتي هذا على حساب بيان ما يعتقد كونه حقًا فيترك الأتباع يقرؤون كتابات شخص، وربما يعتقدون ما فيها بعجره وبجره -كما يقولون- لمجرد شهرته أو انتمائه لهيئة شرعية، و"خير الأمور أوساطها".

وطالما أن الموضوع طُرِح على مائدة البحث فينبغي أن تتم دراسته دراسة موضوعية بعيدًا عن العواطف أو عن "المجاملات"؛ فيجب أن يعترف الجميع أن التعليم الأزهري ما قبل الجامعي يعاني معاناة شديدة من قلة الموارد وضعف مستوى المُدرِّسين وضعف رواتبهم؛ مما يصيبهم بالإحباط، وكون النسبة الكبرى من المعاهد الأزهرية في المناطق الريفية التي لا يتيسر فيها مصادر بديلة للمعرفة.

أضف إلى ذلك عدم وجود توزيع جغرافي جيد للكليات التابعة للأزهر مما يثبِّط أولياء الطالب المتفوق عن دخول الأزهر، فيحصل من هذا: أن الأزهر الذي كان ينبغي أن يُنتقى له خيرة العقول تعظيمًا لشأن دراسة الدين ابتداءً، ثُم مراعاة لأن الطالب يدرس المناهج التي يدرسها بالتوازي مع المنهج الشرعي؛ لا يدخله من هذه النوعية إلا النذر اليسير! مما يعني أن جامعة الأزهر تعاني مشكلة نوعية في الطلاب القادمين إليها.

وقد حاولتْ جامعة الأزهر أن تتفادى هذا القصور بفتح باب الانتساب أمام خريجي الجامعات الأخرى للدراسة الجامعية وما بعدها، وشهدت الفترة التي أتيح فيها هذا الأمر إقبالاً شديدًا من أبناء الحركة الإسلامية عمومًا، ومن التيار السلفي خصوصًا؛ لا سيما والأمر ليس فيه ما يغري أحدًا بالدخول سوى أبناء الحركة الإسلامية، ولكن هذا الأمر تم إيقافه بلا مبرر واضح، ولكن بعد أن ثبت للجميع أن الحركة الإسلامية تريد أن توصل الحق إلى الخلق من خلال الأزهر ومن خلال غيره...  فهل من معين لهم على هذا التواصل مع الأزهر؟

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية