الاثنين، ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٦ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الحقيقة والقتل بنيران صديقة

الحقيقة والقتل بنيران صديقة
الاثنين ٠٧ يونيو ٢٠١٠ - ١٧:٤٠ م
7

الحقيقة والقتل بنيران صديقة

كتبه/ البخاري إبراهيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي ظل التقدم التقني الهائل في مجال المعلومات الإلكترونية أو ما يُعرف بـ"ثورة الإنترنت" أو "العولمة المعلوماتية" قد اجتاحت المجتمع مجموعة من الأخلاق الرديئة التي تتعلق بحرمات الأمة الإسلامية وعِرضها وعلمائها، وهي: انتشار التشهير والفضائح، ونشر الإشاعات والاتهامات والافتراءات والبهتان العظيم من خلال: تقنيات كاميرات المراقبة والهواتف المحمولة، ومواقع الإنترنت والفضائيات، وتكنولوجيا "البلوتوث" التي تسمح بالانتقال اللاسلكي بين الهواتف المحمولة بسرعات فائقة، ودقة في تشغيل البيانات؛ فضلاً عن الصحف والمجلات.

فهي كارثة باتت تهدد مؤسسات فاعلة في المجتمع، ودعاة إلى الله على بصيرة، بل وبيوتًا مسلمة كثيرة.. ! فكم خربت من بيوت، وكم فضحت من مستورات، وكم هزت من كيانات!

فرب شائعةٍ تسببت في هزيمة جيش، أو قيام حرب، أو قتل نفس، أو طلاق زوجة، أو خراب أسرة، أو فساد في الأرض، أو فصل من وظيفة، أو إقامة بدعة لا أصل لها، أو هدم سنة ثابتة، أو صرف المسلمين عن قضية من قضاياهم المصيرية.

كم من مقالة حق أريد بها باطل صدت الكثيرين عن سماع الحق من فلان!، وكم من مقالة سوء نفرت الناس من داعية محتسب، ففتحت بابًا من الطعن واللمز والتشهير، فاتهموه بمشابهة الخوارج -مثلاً- لا لشيء إلا لكونه صدع بالحق المر، ولم يداهن كما يداهن غيره، أو لكونه بيَّن عقيدة أهل السنة والجماعة في مسائل مهمة من مسائل الاعتقاد: كالحاكمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقضايا الولاء والبراء، وغيرها... فحُرم الناس بإيقافه خيرًا كثيرًا.

وكم من باب للخير قد أغلق بسبب همزٍ ولمزٍ، وأمورٍ بُيِّتتْ بليل، وكم من مشروعٍ دعوي ضخم أجهضته كلمةُ انتقاص طائشة في حق القائمين عليه، أطلقها مراهقٌ ممن لا هم لهم إلا مشاغلة الدعاة إلى الله، والتعرض لهم بالسب والتشهير وملء صدور الناس كراهية عليهم! وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطًا إسلاميًّا في مهده، وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت يومًا لله!

وهذا ابن القيم -رحمه الله- يلفـّه استغرابٌ من مدّعي التديّن والوَرَع الذين سَلّوا سيوفَ الكلمة؛ لتقطّعَ لحوم إخوانهم، ولم يُراعُوا لميِّتٍ حُرمة، فيقول: "وكم ترى من رجلٍ متورّعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!".

وهي ظاهرة وإن كانت قديمة، إلا أن الذي ضخمها وهوَّل من أمرها هو تلكم التقنيات الحديثة المشار إليها، حتى راجت هذه الظاهرة وفعلت فعلتها في النفوس الخبيثة.

ولا يخفى أن استغلال التقنية الحديثة لارتكاب الجرائم المختلفة، والتي من ضمنها: التشهير بالآخرين فيه حرف لهذه التقنية عن نهجها الصحيح، وعما ينبغي أن تكون عليه من تحصيل المنافع للمجتمعات والأشخاص.

والأمر الذي يجعلك تعجب -أخي القارئ- حتى يتفجر منك العجب، بل ما يجعل البدن يقشعر حينما يرى ويسمع مظاهر هذه الظاهرة أنها ليست صادرة عن عدو ظاهر أو منافقٍ معلومِ النفاق، بل يقوم بها طائفة من المنتسبين لحقل الدعوة والعلم، وربما يزاحمون أهل الصلاح والالتزام بمناكبهم، ويقفون معهم لخدمة دين الله في خندقٍ واحد، ولكنهم بغوا على إخوانهم، وأصابوهم بطائش سهامهم.

بما يمكن أن نستعير له المصطلح العسكري: "القـتـل بنيران صديـقـة".

فهو عدوان وبغي ممن هم محسوبون على التيار الإسلامي، لكن سهامهم في الحقيقة موجهة إلى إخوانهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا!

فما أحراهم أن يعتبروا بقول إياس بن معاوية -رحمه الله- لما كان سفيان بن الحصين جالسًا عنده، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت! هل غزوتَ الروم؟

فرد سفيان: لا.

فسأله إياس ثانية: أغزوتَ الترك؟

فقال سفيان: لا؛ فعلَّمه إياسٌ درسًا لم ينسه سفيان أبدًا، حين صاح فيه: "سلم منك الروم، وسَلِم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!".

لقد انقلبت الموازين عند هؤلاء حتى أنهم يحتسبون الأجر من الله بفضيحة إخوانهم في الله، والتشهير بهم بغير حق في المنتديات وغيرها...

تقرَّبوا إلى الله ـجهلاًـ بإيذاء إخوانٍ لهم، يظنون أن ذلك يقربهم إلى الله زُلفى؛ وغفلوا عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلا يُقْبَل الْلَّه إِلا الْطَّيِّب) (متفق عليه).

فيا ليت شعري مَن يشتري أعراضَ العلماء والدعاة اليوم من هجَّاءٍ قد تخلف "في كهوف القَعَدَة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب"، و"كلما مرَّ على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحًا فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المُرّة، تمرق من فمه مروق السهم من الرَّميّة، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق، فإن ذلك من شُعَب الإيمان". "تصنيف الناس بين الظن واليقين ص22".

إن مما تستوحش منه قلوب المؤمنين النقية، وتشمئز منه نفوسهم السويّة: ما تراه اليوم من تصرفات رعناء لأدعياء العلم والفضل حين يخطئ عَلَمٌ أو رمزٌ مُوثّق أو داعيةُ خيرٍ كانت له في الإسلام سابقةٌ؛ فإذا هم يستبشرون، ويستبيحون عرضه، ويهتكون أستاره، وينسون فضله، ولمّا يشتدّ عودُهم أو ينضج فكرُهم، أو يبلغوا سنّ الحُلُم بَعْد.

فإلى أدعياء الغيرة -ممن يستبشرون بأخطاء الدعاة، ويتصيّدون هناتهم، ويبحثون عن زلاتهم- نسوق كلامًا نفيسًا لابن القيم -رحمه الله- يشرح فيه منهجًا لميزان الرجال؛ حيث يقول: "من قواعد الشرع والحكمة -أيضًا- أنَّ مَنْ كثُرت حسناته وعظُمَـت، وكان له في الإسلام تأثـيرٌ ظـاهر؛ فإنـه يُحـتمل منـه ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث".

الحقيقة:

إذا فتشت معي -أخي القارئ- عن السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة؛ وجدت أنها قد تأخذ صورًا وأشكالاً عديدة إلا أن الذي يربط بينها جميعًا هو أنها صادرة من نفوس مريضة يدفعها الحسد أو الحقد أو التلذذ بإيذاء الآخرين أو غيرها من الأهداف الخبيثة وإن اختلفت تلك الأهداف من شخص لآخر.

ونُذَكِر إخواننا الذين بغوا على دعاتنا وعلمائنا بمقولة التابعي المخضرم الثقة أبي معبد عبد الله الجهني -رحمه الله-: "إني أرى ذكر مساوئ الرجل عونًا على دمه"؛ وسبب هذه المقولة أنه ذكر لأصحابه في مجلس له يومًا قائلاً: "لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان".

وكانت كلمة مثيرة منه حقـًّا حتى أن كل من سمعه استغربها، فهو العبد الصالح المحب لعثمان المُجل له، العالم بمكانته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما لهذا الشيخ البرئ الذي لم يرفع سيفًا في وجه عثمان قط يتهم نفسه ويلومها على ما لم تفعل؟ حتى إن أحدهم انبرى بجرأة ليسأله: يا أبا معبد وهل أعنت على دمه؟! فيقول مقالته السالفة: "إني أرى ذكر مساوئ الرجل عونًا على دمه".

فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان؛ لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنَّه، وقام في نفسه من أنه الحق قد أدّى إلى استغلال الرُّعاع له حين تكلم به، وكيف استزلهم الشيطان حتى قتلوا عثمان -رضي الله عنه-.

أين هؤلاء من قول أبي بكرٍ الصّديق -رضي الله عنه- فيما أخـرجه عبد الرزاق في "مصنفه": "لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي؛ لأحببت أن أستره عليه!".

إن قلبًا كبيرًا رحيمًا كقلب الصدّيق -رضي الله عنه- قد وسع العصاة المجرمين ليسترهم، وأولئك ضاقت نفوسهم عن نجاحات إخوانهم؛ فأبت إلا أن تتتبَّعَ عوراتهم؛ لتفضحهم؛ فيا لله العجب..!

وإلى أمثال هؤلاء وجَّه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حديثه قائلاً: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ، لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وإذا تأملنا هذا الحديث الشريف قليلاً.. وربطناه بما سبق ذكره؛ تبيَّن لنا أن هذه الظاهرة -ظاهرة القتل بنيران صديقة- ظاهرة قديمة، لكنها متطورة جدًّا في وسائلها، مواكبة أحدث الوسائل والتقنيات، فليهنأ أصحابها بهذا التطور!

وما أمر أولئك المتشدقين بالدعاوى الزائفة لاستباحة أعراض إخوانهم، بل مشايخهم من الدعاة وطلاب العلم إلا كأمر أولئك الذين خاطبهم أبو هريرة -رضي الله عنه- قائلاً: "يُبصرُ أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْلَ -أو الجذْعَ- في عين نفسه؟!" قال أبو عبيد: "الجذل: الخشبة العالية الكبيرة".

إن التفريط في المنهج الإسلامي للتثبت من الأخبار ونقلها، والذي أوصى الله به عباده المؤمنين هو من أعظم الأسباب لهذه الظاهرة الخطيرة، فكم من مظلوم في ماله أو بدنه أو عرضه أو اعتقاده بسبب التساهل في نقل الأخبار وإشاعتها والتشهير بأصحابها.

إن مواجهة جريمة التشهير في "الإنترنت" وغيره.. تستند إلى قواعد: شرعية، وإنسانية، وأخلاقية تحتم علينا ضرورة التعامل مع هذا النوع من جرائم التشهير بطريقة أكثر جدية وفاعلية؛ تحفظ الحقوق، وتمنع الاعتداء، وتحقق العدالة في المجتمع، ولا يمكن القبول بتسويغ هذا النوع من التشهير باسم حرية الرأي أو حق استعمال النقد.

والعجيب أنَّ من يُشهِّر بغيره ممن يفوقونه علمًا وقدرًا حينما ينادي بحرية الرأي والتعبير يحاول أن يحتكر ذلك لنفسه ولمن يوافقه فحسب، فلا يسمح لغيره بأن يخالفه الرأي، بل يحاربه ويُشهر به.

لقد اعتنى التشريع الإسلامي بالتأصيل لمجموعة من الأحكام كفل بها حقوق الفرد والمجتمع وضمان الحريات، وعدم المساس بهذه الحقوق أو النيل من كرامة الأشخاص بوجه عام، فحرمت الشريعة الإسلامية ترويج الشائعات، والتشهير بالمسلمين، وأوجبت ضرورة التثبت من الأخبار قبل نشرها، وحذَّرت من: الغيبة، والنميمة، وإشاعة الفاحشة، وتتبع عورات المسلمين.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شرعت الحدود والتعزيرات والزواجر، وجعلت لها من العقوبات والمؤيدات ما يكفل لها التطبيق وتحقيق مقاصد التشريع.

هذا كله ولم يكن في عصر التشريع جريدة، ولا هواتف، ولا كاميرات تجسس، ولا قنوات فضائية، ولا مواقع الكترونية، مما هو أولى وأدعى للوقوف على حجم هذه المشكلة الكبيرة المترامية الأطراف، والتي لم يسلم منها العلماء فضلاً عن غيرهم!

فقد تعدى الأمر كونه نوعًا من الأذى إلى كونه جريمة خطيرة ماسة بحرية الإنسان ونظام الدولة وسلامتها، لذلك تحولت طريقة النظر فيها من مجرد الجهة الأخلاقية إلى النظرية التشريعية.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الحاجة تصبح ملحة لوجود أنظمة زاجرة تمنع استخدام مثل هذه التقنيات الحديثة للإساءة والتشهير بالآخرين؛ عملاً بقاعدة: "مـَنْ أمِنَ العقوبَة؛ أساءَ الأدَب"!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية