السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

إن المحبين للأحباب خُدَّام

إن المحبين للأحباب خُدَّام
الثلاثاء ٢٤ أغسطس ٢٠١٠ - ١٥:١٢ م
9

إن المحبين للأحباب خُدَّام

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال ابن القيم -رحمه الله- في المحبة:

حمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشقِّ الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها".

قوله: "تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها"، المؤمنون يريدون الجنة، ولكن هناك أثقال تبطئ سيرهم، ولو حملوها بأنفسهم ما استطاعوا السير،فهذا مَثَلُ ثقل التكاليف، فكل إنسان يميل بطبعه إلى الكسل وإن كان يريد الوصول إلى الجنة، لكن هذا الطريق يقتضي أن يصوم النهار، وأن يقوم الليل، وأن يضحيَ بجاهه من أجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يطلب العلم، وأن ينتقل عن داره وأهله، وأن ينفق الأموال، وأن يضحي بنفسه وماله لإقامة الجهاد في سبيل الله -عز وجل-، وكلها طاعات شاقة على النفوس إلا على المحب الذي يبذلها سماحة.

قال فتح الموصليُّ: "المحبُّ لا يجد مع حب الله -عز وجل- للدنيا لذةً، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين"، وقال محمد بن النضر الحارثي: "ما يكاد يملُّ القربة إلى الله تعالى محبٌّ لله -عز وجل-، وما يكاد يسأم من ذلك"، وقال بعضهم: "المحب لله طائرُ القلب، كثيرُ الذكر، متسببٌ إلى رضوانه بكل سبيلٍ يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوْبًا دَوْبًا، وشوقًا شوقًا"، وأنشد بعضهم:

وكن لربِّك ذا حبٍّ لتخدمَه                   إن المحبين للأحباب خُدَّامُ

وأنشد آخر:

ما للمُحبِّ سوى إرادةِ حبِّه                 إنَّ المُحبَّ بكلِّ برٍّ يَضـرَعُ

فهذه المحبةُ حملت أثقالهم وأوصلتهم بسهولة ويُسر إلى منازلهم التي يريدون الوصول إليها، ولذلك سَهُل عليهم أن يقوموا الليل، وأن يصوموا النهار، وأن يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر، وأن يبذلوا كل شيء بانشراح صدر، وهم مع ذلك لم يروا أنهم قدَّموا كثيرًا.

أما من يرى أنه قد بذل وضحَّى فإن رؤيته لتضحيته وبذله نابعة من عدم ذوقه روح المحبة وحقيقتها، فما مثله إلا مثل من يقول: تركت الخشبة من أجل الجوهرة، فهل يقول عاقل أن هذا الشخص يعرف قدر الجوهرة؟ وما قيمة خشبة مع جوهرة ثمينة؟!

ومنبع شعور الإنسان بأنه بذل وضحَّى كثيرًا إنما هو من عدم وجود المحبة الصادقة؛ إذ هي التي تجعل الإنسان يبذل سماحةً، ويهون عليه كل شيء، ويبذله بسهولة، وبذلك يسهل عليهم أمرهم، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بمشاقِّ العبادة وتعبها، بل سهل الأمر بالمحبة، وهذا لأن من وجد المحبة بأسبابها سهلت عليه كل العبادات.

وكذلك الحال في ترك المعاصي؛ لا يرى أنه قد بذل جهدًا كبيرًا في تركها؛ لحبه لله -عز وجل-، وإنما يعاني الإنسان مع نفسه ويعسر عليه قيادها إلى طاعة الله -سبحانه وتعالى- وإبعادها عن المعصية لأنه لم يذق المحبة بعد، فلذلك لابد له من دوام قرع باب المحبة حتى يُفتح له، وعليه أن يبذل جهده حتى يجدها، ولكن يصدق في الأسباب الجالبة للمحبة، ولذلك قال -رحمه الله-: "وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها"، فقد يكون العبد قليل العبادة، لكن مع المحبة يصل إلى منازل ما كان ليصل إليها دون المحبة، فهذا كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ركعتان مقتصدتان في تَفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساهٍ" (انظر: (تفسير ابن كثير) (2/185))، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ) (رواه ابن ماجه وصححه الألباني)؛ وذلك لأنه لم يكن في عبادته المحبة الصادقة، فمنازل المحبين لا يمكن أن يصلوا إليها إلا بالمحبة.

قوله -رحمه الله-: "وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها" أي: تنزلهم من مقاعد الصدق عند الله في الآخرة مقاعدَ أهل الحق التي لم يكونوا ليدخلوا إليها إلا بالحب.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة