الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل (2)

من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل (2)
الأحد ٢٩ أغسطس ٢٠١٠ - ١٥:٢٥ م
8

من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-، وما زلنا مع السبب الثاني وهو التقرب إلى الله بالنوافل، قال ابن القيم –رحمه الله-: "الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة".

قال ابن القيم -رحمه الله- في "الجواب الكافي": "وقد ضمن الله سبحانه لكلِّ من عمل صالحًا أن يحييَه حياةً طيبةً، وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده، وأي حياة أطيب مِن حياة مَن اجتمعت همومه كلها وصارت همًّا واحدًا في مرضاة الله؟ ولم يتشعب قلبه، بل أقبل على الله، واجتمعت إرادته وأفكاره ـ التي كانت متقسمة بكل وادٍ منها شعبة ـ على الله، فصار ذكر محبوبه الأعلى وحبه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستولي عليه،وعليه تدور همومه وإرادته وقصوده، بل خطرات قلبه، فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله، وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن، وبه يحيا، وبه يموت، وبه يُبعث.

كما في صحيح البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالي أنه قال:(مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلابُدَّ لَهُ مِنْهُ).

فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي، الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه، والمراد به: حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل.

وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب ما يتقرب إليه المتقربون، ثم بعدها النوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبًا لله، فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب علي محبة الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له.

ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ومعه وأنيسه وصاحبه، فالباء ههنا للمصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية لا علمية محضة.

وخصَّ في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذِّكر؛ فإن هذه الآلات آلات الإدراك، وآلات السمع والبصر يوردان علي القلب الإرادة والكراهة، ويجلبان إليه الحب والبغض، فيستعمل اليد والرجل، فإذا كان سمع العبد بالله وبصره بالله كان محفوظًا في آلات إدراكه، وكان محفوظًا في حبه وبغضه، فحفظ في بطشه ومشيه.

وتأمل كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان، فإنه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة، وكذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأة، وكذلك حركة اليد والرجل التي لابد للعبد منها، فكيف بحركة اللسان التي لا تقع إلَّا بقصد واختيار؟ وقد يستغني العبد عنها إلَّا حيث أمر بها، وأيضا فانفعال اللسان عن القلب أتم من انفعال سائر الجوارح؛ فإنه ترجمانه ورسوله.

وتأمل كيف حقق تعالى كون العبد به سمعه وبصره وبطشه ومشيه بقوله: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا) تحقيقًا لكونه مع عبده، وكون عبده به في إدراكاته بسمعه وبصره وحركاته بيده ورجله.

وتأمل كيف قال:(فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ)، ولم يقل: فلي يسمع ولي يبصر ولي يبطش، وربما يظن الظانُّ أن اللام أولى بهذا الموضع؛ إذ هي أدل على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخص من وقوعها به، وهذا من الوهم والغلط؛ إذ ليست الباء ههنا لمجرد الاستعانة؛ فإن حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنما هي بمعونة الله لهم، وإنما الباء ههنا للمصاحبة، أي: إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشي وأنا صاحبه ومعه، كقوله في الحديث الآخر: (أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وهذه هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟) (رواه البخاري ومسلم)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128)، وقوله: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46)، وقوله: (قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 62)، وقوله تعالى لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46)، فهذه الباء مقيدة لمعنى هذه المعية دون اللام، ولا يتأتى للعبد الإخلاص والصبر والتوكل ونزوله في منازل العبودية إلاّ بهذه الباء وهذه المعية.

فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق، وانقلبت المخاوف في حقه أمانًا، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الهموم والغموم والأحزان، فلا هم مع الله، ولا غم ولا حزن إلا حيث يفوته معنى هذه الباء، فيصير قلبه حينئذٍ كالحوت؛ إذا فارق الماء يثب وينقلب حتى يعود إليه.

ولما حصلت هذه الموافقة من العبد لربه في محابِّه حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال: (وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) أي: كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إليَّ بمحابي؛ فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعله به ويستعيذني أن يناله، وقوَّى أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى ذلك تردُّد الرب ـ سبحانه ـ في إماتة عبده؛ لأنه يكره الموت، والرب تعالي يكره ما يكرهه عبده ويكره مساءته، فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته؛ فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحَّه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، ولم يقل لأبيه: (اخرج منها) إلا وهو يريد أن يعيده إليها، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كل منبت شعرة من العبد محبة تامة لله لكان بعض ما يستحقه على عبده.

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى                   ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى           وحنيـنه أبدًا لأول منزل

فالمحبة رزق يرزقه الله عبدَه، ويوفقه له، ولا يناله كل أحد، وإنما يناله الصادق الذي ذاق حلاوة الإيمان، لكن لابد لهذه المحبة من أوعية ينال فيها هذا الرزق وهذا العطاء، والعبادات هي وعاء تلك المحبة، ولا وعاء غيرها، فينزل العطاء في هذا الوعاء حتى يحصل للإنسان ما يحبه مِن قربِه مِن الله ومحبتِه له، ثم من حب الله -عز وجل- له؛ لأن قصده أن يرضي الله وأن يفعل محبوباته يدل على صدق حبه لله -عز وجل-، وكلما كان محبًّا صادقًا كلما كان مجتهدًا في أداء ما افترض الله -عز وجل- عليه، ثم يداوم على النوافل التي شرعها الله -عز وجل- وبيَّنها على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفي أفعاله؛ لكي يثبت صدق حبه لله -عز وجل- بفعل محبوباته، حتى يصل إلى درجة المحبوبية بعد أن كان محبًّا.

وقد قال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، فبيَّن درجة الحب التي يلزم منها الاتباع، ويلزم منهما جميعًا المحبوبية، فبدون العبادات من فريضة ونافلة لن يحصل للإنسان ما يرفع منزلته ويحقق به المحبة، وقد لا يجد الإنسان في بداية أداء الفريضة أو النافلة حلاوة المحبة مباشرةً، لكن عليه أن يواظبَ ويستمرَّ، وأن يديمَ قرع الباب إلى أن يفتح؛ لأنه واقف بباب لا محيد له عنه؛ إذ هو الطريق الموصل إلى الله الذي ينتظر أن يُفتح، فيلج فيه، حتى يصل إلى الدرجات العليا من أعمال القلوب: من الحب والخوف والرجاء والقرب والمحبوبية بعد ذلك، ووسيلته إلى ذلك أداء العبادات من الفرائض مثل: الصلاة والصيام والحج والعمرة، والنوافل منها، والبحث عن أفضلها وأحبها إلى الله -عز وجل- كالنوافل الراتبة وقيام الليل وصيام الأيام والشهور الفاضلة والصدقة والتنفل بالحج والعمرة، وهذه كلها من أفعال البر التي إذا فعلها الإنسان كان صادق الحب، ونزل في أوعيته ما يرزقه الله -عز وجل- به من محبته.

وللحديث بقية بإذن الله مع بقية الأسباب الجالبة لمحبة الله –عز وجل-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة