الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

من أسباب المحبة: التسنم إلى محاب الله

من أسباب المحبة: التسنم إلى محاب الله
الأربعاء ٠١ سبتمبر ٢٠١٠ - ١٥:٣٩ م
18

من أسباب المحبة: التسنم إلى محاب الله

كتبه/ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-، وما زلنا مع السبب الرابع، قال ابن القيم –رحمه الله-: "الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى"، وقد تناولنا الركن الأول، وهو: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.

أما الركن الثاني فهو: "التسنم إلى محابه"، والتسنم: الصعود، ومنه ذروة السنام: أعلى سنام الجمل لارتفاعه، فالتسنم إلى محابه: أي الصعود إلى ما يحبه تبارك وتعالى؛ فهو شيء عالٍ؛ لأن نفس الإنسان تميل إلى الكسل، فلا تريد أن تصلي، ولا أن تصوم، ولا أن تحج وتعتمر، ولا أن تنفق، ولا أن تثبت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، ولا أن تحضر دروس العلم، وإنما تريد اللهو واللعب، كما قيل:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على                حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فهي كالطفل الصغير؛ جاهل ظالم لا يريد إلا اللهو واللعب، أما الشيء النافع فيُحمل عليه حملاً؛ لأنه لم يجد بعد اللذة التي تدفعه إلى فعل هذه الطاعة.

فالتسنم إلى محابه يكون "وإن صعب المرتقى"، فلابد من الارتقاء إلى علياء المحبة وإن صعب المرتقى بالتسنم إلى محاب الله، وستصل لتجد عند ذلك الراحة واللذة والسكون، وعندها لن تجد أعظم من راحة العبادة ولذتها، بل الحقيقة أن الإنسان لا يجد مشقة في العبادة إلا لنقصان حاله وعدم حضور قلبه، ومن أدلة ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن موسى؛: (إِنَّ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (الكهف: 36)، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ المَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ) (رواه البخاري)، فهذا دليل على أن العبادة إذا وقعت على وفق ما أمر الله -عز وجل- كانت راحة بلا تعب أو مشقة.

وهذا أمر مشهود؛ فمن أقبل على الصلاة بخشوع وخضوع ـ كما قال الله -عز وجل-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45) ـ فإنه لا يشعر بمرور الوقت ولا بنصب العبادة، بينما الآخر يشعر بثقلها ونصبها لعدم حضور قلبه وانشغاله بالتفكير: متى تنقضي الصلاة؟ ومتى ينصرف منها؟ وكتدافع الناس في يوم النفر الأول حتى يكاد بعضهم يقتل بعضًا كأنهم في عقوبة، ولو كانوا مستحضرين لذة العبادة لحزنوا على انتهائها، كما كان بعض السلف يهتمُّ ويحزن لطلوع الفجر وهو يقيم الليل، وآخر يهتمُّ وينشغل بوقت انتهاء العبادة، فلا يجد الإنسان لذة العبادة إلا إذا وقعت على وفق شرع الله -عز وجل- ظاهرًا وباطنًا، وتصبح العبادة راحة له، كما في الحديث: (يَا بِلاَلُ، أَقِمِ الصَّلاَةَ، أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وحديث: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

وكان ثابت -رحمه الله- يقول: "اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لثابت أن يصلي في قبره"، فغاية أمانيه ومبلغ آماله أن يصلي في قبره، والصحيح أن هناك من يصلي في قبره، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا أن الميت بعد أن يدخل قبره: (يُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مَثُلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أُدْنِيَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبِرْنِي عَمَّا نَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ الله، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِ الله، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيَيْتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني)، وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- موسى؛ يصلي في قبره كما في الحديث الذي رواه مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) (صحيح مسلم)، وهذا من باب الإكرام والسعادة؛ لأنه يجد لذة في ذلك، وهو المقصود ـ والله أعلم ـ في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، فالعيش بعد الموت إذا كانت فيه لذة الصلاة فهو عيش ميسر وجميل.

فلا تقر عين المؤمن في الدنيا إلا بالله -عز وجل- وذكره ومحبته والأنس به، ومن قرَّت عينه بالله فقد حصلت له قرة العين التي لا تنقطع في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، وقرت به عيون المؤمنين، كما قال بعضهم: "من قرت عينه بالله قرت به كل عين".

وكان حبيب العجمي يخلو في بيته، ثم يقول: "ومن لم تقر عينه بك فلا قرَّت، ومن لم يأنس بك فلا أنس".

وروي عنه أنه كان يقول: "لا قرت عين من لم تقر عينه بك، ولا فرح قلب من لم يفرح بك، وعزتك إنك لتعلم أني أحبك".

وقال حبيب ليزيد الرقاشي: "بأي شيء تقر عيون العابدين في الدنيا؟ وبأي شيء تقر أعينهم في الآخرة؟"، فقال: "بالإكثار من التهجد في ظلمة الليل، وأما الذين تقرُّ أعينهم في الآخرة فلا أعلم شيئًا من نعيم الجنان وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم، إذا رُفعت تلك الحجب، وتجلَّى لهم الكريم".

وكان كهمس يقول في جوف الليل: "أتراك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه؟".

وكان بعضهم يقول: "أنت قرة عين المطيعين، وأنت مننت عليهم بالطاعة، وكيف لا تكون قرة عين العاصين وأنت مننت عليهم بالتوبة؟".

من قرَّت عينه بمناجاة الله سرًّا في ظلمة الليل أقر الله عينه عنده بما لم يُطلع عليه بشرًا، كما قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 16-17).

فالإنسان لا ينال قرة العين ولا تحصل له إلا بالله -سبحانه وتعالى-، فكل العبادات والطاعات صعبة المرتقى في بدايتها، لكن إذا صبر عليها الإنسان نفسه وفعل ما يحبه الله -عز وجل- من الطاعات وصل إلى أن يحب هذه الطاعات بعد ذلك، وأن يجد لها أثرًا في الحال، وأثرًا يدوم معه بعد ذلك.

ولذلك قلنا أن هذا السبب الرابع يشمل أمرين: فعل الطاعات، وترك المحرمات، ففعل الطاعات فيه صعوبة في بدايتها، وترك الشهوات فيه منازعة النفس لأنها تميل إلى الكسل واللعب، والمؤمن لا يتركها تكسل؛ لأنه يريد راحتها الحقيقية، كطالب مجتهد يتعب نفسه بالسهر ليريحها وليجد لذة النجاح بعد ذلك، وهذا في أمر دنيوي، فكيف بالأمر الأخروي؟

فلا بد من أن يبذل العبد جهده ليصل إلى الغاية، ويفعل الطاعات، ويترك المحرمات وإن كانت نفسه تحبها، يفعل ذلك وإن صعب المرتقي ويتسنم إلى محاب الله -عز وجل-.

وللحديث بقية بإذن الله مع بقية الأسباب الجالبة لمحبة الله –عز وجل-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة