الاثنين، ٦ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ١٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

علامات المحبة (2)

علامات المحبة (2)
الخميس ٠٩ سبتمبر ٢٠١٠ - ١٥:٥٥ م
14

علامات المحبة (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع كلام الإمام ابن القيم –رحمه الله- في علامات المحبة، قال –رحمه الله-: "لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يُرضَ لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد َذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54)".

قوله -رحمه الله-: "لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يُرضَ لها بثمن دون بذل النفوس"، فالله يحب أن يتنافس المؤمنون المحبون في إظهار تضحيتهم وبذلهم لكي ينالوا حب الله -عز وجل-، و"سوق من يزيد" مثل المزاد، أي: لينظر من يدفع أكثر، ولذلك فهم يتنافسون في البذل، ومالكها لا يرضى بثمن لها دون بذل النفوس، فلكي يعطيك حبه وتجد لذته في قلبك لابد أن تكون مستعدًّا لبذل نفسك.

"فتأخر البطالون" أي: من لا يريدون بذل شيء، ولا يريدون العمل للإسلام، وإنما يريدون أن ينالوها سهلة دون ثمن، فمثل هذا سيتأخر، ولن يتقدم؛ لأنه غير مستعد لبذل نفسه، "وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)"؛ لأن الله قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54)، فالذلة على المؤمنين من علامات حب الله -عز وجل-؛ لأن (أَذِلَّةٍ عَلَى) تتضمن معنى الشفقة والرحمة، فرفقك بعباد المؤمنين والمسلمين وحب الخير لهم ومراعاتك لمصالحهم من علامات صدق المحبة.

(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فهو قوي شديد عليهم، لا يتهاون، ولا يداهن، ولا يركن إليهم، ولا يقول الباطل إرضاء لهم.

لذلك كانت قضية الولاء والبراء والحب والبغض من أعظم أدلة وعلامات حب الله -عز وجل-، وغيابها وضعفها أو وجود ما يناقضها من أعظم الأدلة على انتفاء هذه الصفة من القلب، وربما وُجد ضدها، والعياذ بالله، ولذلك تجد المنافقين من أشد الناس بعدًا في هذا الباب، كما قال الله -عز وجل-: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء: 139)، فالمنافق يحب الكفرة، وينصح لهم، ويواليهم على أهل الإيمان، أما حالهم مع المؤمنين فكما قال الله -عز وجل-: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (الأحزاب: 19) والعياذ بالله، وإذا تمكنوا منهم ساموهم سوء العذاب وعاملوهم بأنواع الإهانة.

ولذلك كان النفاق ظاهرًا جليًّا لا يخفى على أهل الإيمان، ومع أنه في القلب إلا أن دلائله لا تخفى على أهل البصائر، فمثل هذا الإنسان لا يحب الله -عز وجل-؛ لأنه يعادي أولياء الله الذين يحبونه ويطيعونه، وهمُّه في الدنيا القدح فيهم والشدة عليهم، وفي نفس الوقت تجده رفيقًا ذليلاً هينًا لينًا مع الكفرة والمنافقين وأعداء الإسلام، وقد يتلبس المنافق باسم الدين أو العلم والدعوة وعلامات النفاق ظاهرة عليه بينة جلية؛ لأنه ذليل للكافرين والمنافقين، يحبهم ويرى نفسه في خندقهم، شديد على أهل الإسلام، بخلاف من وصفهم الله -عز وجل-: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

انظر إلى شفقة أنس بن النضر -رضي الله عنه- على المسلمين وغيظه من الكفار عندما انهزم المسلمون وفروا في غزوة أحد فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-" <رواه البخاري>، فهو يعتذر عن المؤمنين، ويتبرأ من المشركين، فيدعو للمسلمين أن يقبل الله عذرهم مع أنهم فروا من المعركة وتركوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لا يستطيع إلا أن يرجو لهم أن يكون لهم عذر وتوبة مقبولة.

وقد وصف الله -عز وجل- أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل وجودهم ووجود آبائهم، فقال -عز وجل-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29)، فعلامة المحبة الصادقة لله -عز وجل- أن تحب أولياءه الذين يطيعونه، لا أن تبحث عن زلاتهم وعوراتهم وتتبعها لكي تفسد الأمور عليهم، وفي نفس الوقت تذل للكفار، فالمؤمن الصادق ذليل على المؤمنين شفيق رحيم بهم، شديد على الكفار عزيز عليهم، يتبرأ منهم بمقتضى ما شرع الله -عز وجل- من البراء منهم.

وللحديث عن علامات الحب بقيةٌ بإذن الله -عز وجل-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة