الاثنين، ٦ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ١٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

علامات المحبة (3)

علامات المحبة (3)
الجمعة ١٠ سبتمبر ٢٠١٠ - ١٥:٥٦ م
11

علامات المحبة (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع كلام الإمام ابن القيم –رحمه الله- في علامات المحبة، قال –رحمه الله-: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)، فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)، فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع؛ عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).

إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب؛ أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى".

قوله -رحمه الله-: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)".

أي: نريد شهودًا وأدلة واضحة تدل على صدق دعواكم في المحبة، والآية واضحة بينة في هذه الدلالة، فمن زعم أنه يحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته وهو يخالف طريقتهم بأن يسب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً؛ فهو غير صادق في دعواه، ما لم يأت ببينة على صدق الدعوى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي).

ومن اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعليه أن يبحث عن سنته، فيتبعها ظاهرًا وباطنًا: في الهيئة، والأخلاق، والعبادة، والسلوك، لا في مسألة واحدة فقط، فقد تجد بعض الناس قد أظهر الالتزام الظاهر قائلاً أنه يتبع السنة، ومثال ذلك أنك تجد أن كلمة سني قد صارت تعني عند الناس أنه ملتحٍ فقط، فليست هذه القضية، وإنما القضية أن تتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- في أخلاقه، وفي أعماله، وفي عبادته، وفيما جاء به -صلى الله عليه وسلم- من العقيدة في المقام الأول، فتصل إلى درجة المحبوبية بعد درجة المحبة باتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).

يقول -رحمه الله-: "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه"؛ لأن معهم دليلاً على صدق حبهم لله -عز وجل-، وهو أنهم يتبعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه.

قوله -رحمه الله-: "فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)"، فالبينة شهود، والمطلوب في الشهود تزكية أحد لهم لإثبات عدالتهم، فهو يقول أن التزكية التي تدل على عدالة البينة ـ وهي الاتباع الصادق ـ هي الجهاد، فيجاهدون في سبيل الله بأنواع الجهاد كلها: بالقرآن والسنان، وبالمال والنفس، وبما شرع الله -عز وجل- من أنواع الجهاد كلها، فهم (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)، لا يعبؤون بمن يلومهم؛ لأن الناس إنما يلومونهم على الاتباع، فهم لا يعبؤون بمن لامهم على اتباع حبيبهم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يخافون في الله -عز وجل- لومة لائم.

قوله -رحمه الله-: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)"، فهلموا إلى بيعة تؤكد أنكم لا تملكون نفوسًا ولا أموالاً، وإنما تركتموها لله يفعل بها ما يشاء، لا تقل: لي كذا؛ فإنه ليس لك شيء، إنما أنت مملوك قد بعت نفسك؛ (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).

قال: "فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع؛ عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا"، فإذا أردت أن تعرف قدر سلعة فانظر إلى من يشتريها، فإذا كانت سلعة لا يشتريها إلا الملوك فلابد أنها سلعة عظيمة، فما بالك إذا كان المشتري هو رب العالمين -عز وجل- ؟! والثمن هو الجنة، ومن جرى على يديه عقد التبايع هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو الذي بايع عن الله -عز وجل-، وجبريل المبلغ عن الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فهذان أشرف رسولين: رسول بشري، ورسول ملكي.

قال -رحمه الله-: "فرأوا أن من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس"، فهذه هي النفوس المحبة، وليست النفوس المتوانية الكسولة البعيدة عن الخير التي لم تتصف بالصفات التي ذكر الله -عز وجل-: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112)، فرأوا من أعظم الغبن -أي: الخسارة- أن يبيعوها لغير الله بثمن بخس، أي: بشيء من الدنيا؛ فالنفس ما هي إلا دقائق وساعات، فمن أنفق عمره لنيل حظ من حظوظ الدنيا يكون بذلك قد باعه بثمن بخس.

قال -رحمه الله-: "فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار"، فلا يقول أحد منهم أنه يمكن أن يرجع في هذه البيعة، فليس عنده أدنى احتمال للرجوع في أثناء الطريق، بل سيسير فيه للنهاية.

قال -رحمه الله-: "وقالوا: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك"، هذه كلمة الصحابة في بيعة العقبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقوله: "لا نقيلك" أي: لا نقبل منك أن تفسخ العقد معنا، "ولا نستقيلك" أي: لا نطلب منك أن تفسخ العقد.

قال -رحمه الله-: "فلما تمَّ العقد وسلموا المبيع" أي: سلموا النفوس لله -عز وجل- يفعل بها ما يشاء، ويضعها حيث أراد، ومهما يكن من أمر فهو يحقق العبودية لله -عز وجل- في كل مكان.

قال -رحمه الله-: "قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)"؛ معاملة بالكرم، كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جابر جمله، فأعطاه ثمنه وزاده ثم رده عليه (رواه البخاري ومسلم)، فالله أكرم الأكرمين، فهو -عز وجل- قد أخذ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم فردها عليهم أوفر ما كانت، أي: أتم ما كانت وأضعافها معها، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، فلما بذلوا الحياة أعطاهم الله -عز وجل- حياة أكمل منها بكثير، ومن عاش منهم عاش أكرم حياة.

قال -رحمه الله-: "إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب" -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان أصله المحبة والإخلاص والاتباع، فإذا حدث ذلك "أثمرت أنواع الثمار، وآتت أُكُلَها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى"، وأُكُلُها هو آثار حب الله -عز وجل- في القلب من الأعمال والأقوال الطيبة، فتؤتي المحبة هذه الثمار كل وقت وحين، فشجرة المحبة "أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى"، فالشجرة أصلها في قلب العبد المؤمن، وفرعها هو أعماله، تصعد إلى الله -عز وجل-، فسدرة المنتهي عندها تقبض الأعمال، فلا يزال عملٌ صالحٌ يصعد مقبولاً تُفتح له أبواب السماء ولا يرد في وجهه.

المحبة حقيقة العبودية، وإنما تمكن الأعمال الأخرى -من الحمد، والشكر، والخوف، والرجاء، والصبر، والزهد، والحياء، والفقر، والشوق، والإنابة- باستمرار المحبة في القلوب، وهي حقيقة الإخلاص، بل حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، لذلك أتعجب أعظم العجب ممن يقول: لا يلزم ولا ذرة من حب الله في القلب لينجو الإنسان، فبعض المبتدعة الجهال الذين نسبوا أنفسهم إلى السلفية ظلمًا وزورًا يقولون أن أصل أعمال القلوب بما فيها المحبة ليست ركنًا في الإيمان، وإنما يكفيه قول اللسان وينجو بذلك عند الله، فهذا من الجهل، بل لم يشم رائحة للإيمان من يقول هذا الكلام، نعوذ بالله من الخذلان.

نسأل الله أن يمن علينا بصلاح قلوبنا وتزكية نفوسنا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة