الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

إنه لا يحب المسرفين

إنه لا يحب المسرفين
الأربعاء ٠١ سبتمبر ٢٠١٠ - ١٥:٣٢ م
9

إنه لا يحب المسرفين

كتبه/ علي حاتم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -عز وجل-: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام:141).

وقال أيضًا: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31).

ولأهل اللغة في تفسير الإسراف قولان:

الأول: قال ابن الأعرابي: السرف تجاوز ما حد لك.

الثاني: سرف المال ما ذهب منه من غير منفعة. "التفسير الكبير".

وبناءً على ذلك فإن للمفسرين فيه أقوالاً:

الأول: أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئًا فقد أسرف؛ ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) (رواه مسلم).

وفي حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- حيث قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يتصدق بثلثي ماله وله ابنة: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) (متفق عليه).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قيل معنى قوله: (وَلا تُسْرِفُوا) أي: فتعطوا فوق المعروف. وقال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله: (وَلا تُسْرِفُوا)، وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جذ نخلاً. فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته. فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله: (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)".

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء؛ فنزل قول الله -عز وجل-: (وَلا تُسْرِفُوا) "القرطبي في تفسير".

الثاني: (وَلا تُسْرِفُوا) أي: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم.

ولا يخفى حكم مانع الصدقة، وما يتعرض له من عقاب يوم القيامة -نسأل الله العافية-.

يقول صاحب التفسير الكبير -رحمه الله-: "وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد، إلا أن الأول مجاوزة الحد في الإعطاء، والثاني مجاوزة الحد في المنع".

الثالث: قال الزهري في قوله -تعالى-: (وَلا تُسْرِفُوا) أي: لا تنفقوا في معصية الله، وهذا على القول الثاني في معنى السرف.

قال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف، وهذا القول يدخل فيه بالتأكيد من أنفق في معصية الله.

ويقول القرطبي -رحمه الله-: "المعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشيء بغير حق، وتضعوه في غير حقه، وهو معنى ما قاله إياس بن معاوية".

القول الرابع: قال مقاتل: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام، وهذا القول أيضًا من باب مجاوزة الحد؛ لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حُد له، كما يبين صاحب التفسير الكبير، بل هو من الشرك الأكبر الذي بينه الله -عز وجل- في قوله -تعالى-: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا) (الأنعام:136).

القول الخامس: يقول ابن كثير: "الظاهر -والله أعلم- من سياق الآية أن يكون عائدًا على الأكل، أي: لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن؛ لقوله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)".

وفي صحيح البخاري تعليقًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ". وهذا القول يعود إلى المعنى الأول للسرف، وهو مجاوزة الحد.

قول آخر والرد عليه:

أما ما قاله مجاهد -رحمه الله-: "لو كان أبو قبيس ذهبًا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفًا، ولو أنفق درهمًا أو مدًا في معصية الله كان مسرفًا".

وما قاله حاتم الطائي وقد قيل له: "لا خير في السرف. فقال: لا سرف في الخير".

فإن الأئمة يردون هذين القولين بما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- في شأن ثابت بن قيس بن الشماس -رضي الله عنه-، وبما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج في شأن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما جذ نخله، ويُرد عليهما أيضًا بباقي الأدلة التي تم توضيحها تحت القول الأول وبغيرها.

قال السدي: (وَلا تُسْرِفُوا) أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، وقد ضعف القرطبي قولي مجاهد، وحاتم المذكورين.

يقول القرطبي -رحمه الله-: "قلتُ: فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال، ومنع إخراج حق المساكين داخلين في حكم السرف، والعدل خلاف هذا فيتصدق ويُبقي، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) (رواه البخاري ومسلم)، إلا أن يكون قوي النفس غنيًا بالله، متوكلاً عليه، منفردًا لا عيال له، فله أن يتصدق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما تعين في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال" انتهى كلام القرطبي.

تعليق:

والقول الذي ساقه القرطبي هو الصواب -إن شاء الله-، وهو الذي تتظاهر به الأدلة، ويجمع به بين الأقوال المختلفة، فإن الشرع يحض على النفقة بخلاف النفقات الواجبة، لكنه في نفس الوقت يحض على عدم ترك الورثة فقراء يتكففون الناس، بل بيَّن أن خير النفقة تلك التي ينفقها المسلم على من يعول.

كما أن الشرع يجوِّز أن يتطوع المسلم بكل ماله في سبيل الله، لكنه يضع لذلك شروطًا -لخصها العلماء- تجمع بين كل الأقوال:

1- أن يكون الشخص قوي النفس مستغنيًا بالله، يصبر على الإضاقة والفقر.

2- أن يكون عياله ممن يصبرون أيضًا أو ليس له عيال.

3- ألا يكون عليه دين.

وهذا هو معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا صَدَقَةَ إلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى) (رواه البخاري تعليقًا، وأخرجه أحمد في مسنده)، أي أن أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته.

- إذا تحققت الشروط السابقة فإن مذهب الإمام النووي -رحمه الله- استحباب الصدقة بجميع المال، أما إذا لم تتحقق أو فقد منها بعضها فإن ذلك مكروه.

ترجيح الحافظ في الفتح:

يقول الحافظ في الفتح: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى"، والمختار: أن معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجًا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تُدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض -إن شاء الله-" انتهى كلام ابن حجر.

قوله -عز وجل-: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ):

فالله -عز وجل- يحب ويكره ويغضب ويرضى إلى غير ذلك من الصفات التي وصف بها نفسه، ووصفه به رسوله الله -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي الإيمان بها، وبأنه متصف بكل صفات الكمال والجلال من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، نعلم معانيها ونشاهد آثارها في الكون، ونتعبد لله -عز وجل- بما تقتضيه هذه المعاني، وذلك في إطار قوله -عز وجل-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)، ونَكِلُ علم كيفيتها لله -سبحانه وتعالى-.

- وكل مكلف لا يحبه الله فهو من أهل النار، والدليل على ذلك قوله -عز وجل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) (المائدة:18).

فدل ذلك على أن كل من أحبه الله فليس هو من أهل النار، وذلك يفيد من بعض الوجوه أن من لم يحبه الله فهو من أهل النار.

والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة