السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (158) دعوة غيَّرت وجه الأرض (5)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (158) دعوة غيَّرت وجه الأرض (5)
الثلاثاء ١٩ مارس ٢٠٢٤ - ٠٩:٣١ ص
49

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (158) دعوة غيَّرت وجه الأرض (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الرابعة:

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة أبيه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ دعا ربَّه أن يبعث في ذريته رسولًا منهم؛ يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: (‌رَبَّنَا ‌وَابْعَثْ ‌فِيهِمْ ‌رَسُولًا ‌مِنْهُمْ ‌يَتْلُو ‌عَلَيْهِمْ ‌آيَاتِكَ ‌وَيُعَلِّمُهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129).

وتوسل إلى الله -عز وجل- بعزته وحكمته في قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نورًا خرج منها فأضاء قصور الشام كما ورد في الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: يَا نَبِيَّ اللهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: (‌دَعْوَةُ ‌أَبِي ‌إِبْرَاهِيمَ، ‌وَبُشْرَى ‌عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

إن الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة في القرب من الله -عز وجل-، وبحسب قرب الداعي من ربه واستعانته بحول الله وقوته، يؤثِّر الدعاء تأثيرًا عجيبًا يمتد آلاف السنين بقدرة الله؛ يقول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فإبراهيم -عليه السلام- يدعو لمَن عصاه بأن يغفر الله له، وإنما يغفر الله الشرك بأن يتوب العبد منه، فإن مات على الشرك وقد بلغته الحجة لا يغفر الله له الشرك؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48).

وقوله: (وَمَنْ عَصَانِي) تشمل مَن عصى الله -عز وجل- بما دون الشرك، فإبراهيم يستغفر له، فالمغفرة لهذا النوع ممكنة، والاستغفار مؤثر -بإذن الله-، وأما مَن أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه؛ هذا لمَن لم يمت على الشرك، أما مَن مات على الشرك؛ فإن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يتبرأ منه كما تبرأ من أبيه آزر، كما قال -تعالى-: (‌فَلَمَّا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُ ‌أَنَّهُ ‌عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114).

فإبراهيم الأواه الحليم المنيب، الذي يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط؛ القوم المجرمين الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، واستهزأوا بنبيهم لوط -عليه السلام- وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يدعو لهم بشفقته ورحمته للخلق، والله يحب منه ذلك حتى وإن دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يُغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخَّر عنه العذاب ممن أمر الله فيه نافذ، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه كثير الدعاء، وإبراهيم -عليه السلام- كان كذلك، فهو -عز وجل- يحب هذه الصفات التي ترتَّب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه؛ فكيف يمكن أن يظن به أن لا يكون شفيقًا رحيمًا بولده وأم ولده؟! ذلك مما لا يتصور؛ فكيف تسأل هاجر وتقول: "إلى مَن تتركنا؟!"، كيف يمكنها أن تتصور ذلك؟! فذلك مما لا يتصور!

كيف يمكنها أن تظن أنه يتركهم إلى غير أحدٍ؟! فتُكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بالسكوت الذي هو أنفع أحيانًا من الكلام؛ يعلمها بأن لا يلتفت إليها، وفي الثالثة تُكرر السؤال ولا يجيب إبراهيم، ولا يلتفت، فتنتبه عند ذلك، فتقول: "آلله أمرك بهذا؟"، فهنا يجب إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "نعم"؛ يلتفت إليها ويجيب، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية.

الفائدة الخامسة:

في هذه القصة أنه ينبغي أن نؤكد في النفوس أن نمتثل أمر الله -عز وجل-، فإبراهيم -عليه السلام- لبَّى أمر ربِّه، والمؤمنون حين يلبون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، إنما يتبعون أنبياء الله -عز وجل-، ويجيبون الدعوة التي بلغَّها إبراهيم بأمر الله: (‌وَأَذِّنْ ‌فِي ‌النَّاسِ ‌بِالْحَجِّ ‌يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27).

ينادي إبراهيم: "إن لله بيتًا فحجوه"؛ نادى بغير مكبر صوت وبغير إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كانت هذه الكلمة مؤثرة تأثيرًا عجيبًا في البشر عبر العصور والأزمنة والأمكنة ما لا تؤثر كل الوسائل الأخرى؛ الناس اليوم عندهم وسائل إيصال الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة، ووسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك كم مِن الملايين مِن الكلمات تذهب هدرًا، ولم تذهب كلمة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هدرًا؛ وذلك للصدق، وللوعد الذي جعله الله -عز وجل- وعد صدق؛ أنه هو الذي يوصِّل هذه الدعوة، فأجابه مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء: "لبيك اللهم لبيك".

فكل مَن لبَّى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقعة ملبيًا مجيبًا دعوة إبراهيم، نحن نمتثل أمر الله مهما كان في الظاهر شاقًّا، ومهما كان في الظاهر صعبًا، لكنه اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة.

تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، يترك إبراهيم ولده وأم ولده فيها ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، مثل: أن يترك معهم قربة ماء وجراب تمر، يتركهم ويذهب إلى الشام، إلى بيت المقدس، مسافة في ذلك التاريخ تُقضى في أكثر من شهر ونصف، يرحل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ويتركهم لله -عز وجل-، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا أمر الله: "إذًا لا يضيعنا"؛ ثقة بالله وتوكلًا عليه.

قارن بين هذه اللحظات وبين ما نراه اليوم حيث لا يوجد موضع قَدَم في تلك البقعة المباركة إلا ما شاء الله.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة