الصالون الأدبي (مع عقاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر (31)

الصالون الأدبي (مع عقاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر (31)
الاثنين ٠٣ مارس ٢٠٢٥ - ١٢:٥٠ م
22

الصالون الأدبي (مع عقاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر (31)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيُواصِلُ الأستاذ محمود شاكر حكايةَ رحلتِه مع "التَّذَوُّقِ" بلفظِه المُونِق، وأسلوبِه المُشْرِق؛ فيقول: (فارَقتُ الجامعةَ سنة 1928، وانطوى الماضي كُلُّه بما فيه، وبمَن فيه أيضًا، ذهبتُ بعيدًا وحيدًا لا رفيقَ لي غير "قضيَّة الشِّعر الجاهليّ"، كما شرحتُها لك آنفًا، والتي لَم تلبث أن أنشأتْ لنفسها صاحبةً لا تفارقها، هي إعادة النَّظر في شأن "إعجاز القرآن".

كان لفظُ "التَّذَوُّقِ" فاشيًا في الألسنةِ والأقلامِ، لا يكاد أحدُنا يَشُكُّ في أنَّه معنًى مفهومٌ واضحٌ مفروغٌ منه، ومع الأيَّامِ الطُّوَالِ المُوحِشَةِ، وشيئًا فشيئًا، بدأ ما كنتُ أجدُه في نفسي عند قراءةِ الشِّعرِ الجاهليِّ وغيرِ الشِّعرِ الجاهليِّ، والذي سمَّيتُه لك آنفًا "ما وراءَ التَّذَوُّقِ"، والذي كان ما أقولُه عنه غيرَ مُبِينٍ ولا واضحٍ، والذي أنكَرَه عليَّ أساتذتي مِن قَبْلُ، ورفَضَه الدُّكتور طه رفضًا كاملًا، أخذ هذا يَدفَعُني إلى سُلُوكِ طريقٍ آخَر، يعتمد على جَسِّ الكلماتِ والألفاظِ والتَّراكيبِ جَسًّا مُتَتابِعًا بالتَّأمُّل، ثُمَّ عليَّ الرُّجُوعُ إلى أُصُولِهَا في المَعاجمِ مع التَّدقيقِ في مَكْنُونِ معانيها المُختلِفة، ثُمَّ في دلالاتِها وظِلالِ دلالاتِها عند كُلِّ شاعرٍ أو كاتبٍ، ثُمَّ دخلتُ في مُقارَناتٍ كثيرةٍ بين المُتشابِهاتِ والمُتبايِناتِ، وشيءٍ كثيرٍ بعد ذلك كان يَفرضُ نَفْسَهُ على طريقي فرضًا.

يومئذٍ بدأ لفظُ "التَّذَوُّقِ"، بمفهومِه الذي عهدتُه، بدأ يتزعزعُ مِن حيثُ نشب مِن نفسي ومِن لساني، ورأيتُه لفظًا مُبهَمًا مُجْمَلَ الدَّلالةِ، لفظٌ غامضٌ مُظلِمٌ، مُضَلِّلٌ بِتَعَدُّدِ صُوَرِهِ واختلافِها وتَنَوُّعِهَا، ولكنِّي لَم أستطع أن أطرقَ بعيدًا، لأنَّ الذي أجدُه في نَفْسِي ممَّا سمَّيتُه "ما وراءَ التَّذَوُّقِ"، كان لا يَزالُ صاحبَ سُلْطانٍ عليَّ مُطَاعٍ، فكان يَقْبِضُنِي عن الطَّيْشِ والمُجازَفةِ بطرحِه، فبينهما صِلَةٌ خَفِيَّةٌ أُحِسُّهَا، وإن كنتُ غيرَ قادرٍ على تَبَيُّنِهَا.

وهذا الذي استولى عليَّ وخامَرَني في شأنِ "التَّذَوُّقِ"، رَمَاني بغتةً في حَوْمَةِ الارتيابِ وفُوجِئتُ بلفظٍ آخَرَ هو لفظُ "البلاغةِ" الذي يدور عليه القَولُ في "إعجازِ القُرآنِ"، والذي يُوصَفُ به الكلامُ فيُقالُ: "كلامٌ بليغٌ"، فإذا هو أيضًا عندي الآن لفظٌ مُبهَمٌ شديدُ الإبهامِ، ونَفَرَتْ جَهَنَّمُ بين شِدْقَيْهَا تريد أن تَبْتلِعَني.

ضاقَت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، بَيْدَ أنِّي كُلَّمَا أعدتُ النَّظَرَ وجدتُ "الذَّوْقَ" حقيقةً كامنةً في نَفْسِي، ووجدتُ "البلاغةَ" أيضًا حقيقةً ظاهرةً تفرضُ سُلْطانَها على نَفْسِي، ولكنِّي كُلَّمَا حاولتُ أن أعرفَ لهما بيانًا أو حدًّا بلغ فيَّ الإعياءُ كُلَّ مَبْلَغٍ) (انتهى).

وتستمر الحكايةُ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

واللهُ -سبحانه- المُوَفِّقُ.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الابلاغ عن خطأ

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة