نقاش هادئ حول اتفاقية
كامب ديفيد، ونصرة أهل غزة وبعض ما أثير مؤخرًا
كتبه/ شريف طه
الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسول الله، أما بعد؛
هذه الاتفاقية التي لم
تحدد بمدة ، لها حكم العهود المطلقة ، وذلك أن العهود مع الكفار أربعة أنواع :
الأول : العهد المؤبد
الذي لا يجوز نقضه إلا إذا نقضه الطرف الآخر ، وهذا هو عقد الذمة المعروف، وهو
المذكور في قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ...) الآية .
الثاني : العهد المؤقت
بمدة ، فهذا لا يجوز نقضه أثناء المدة إلا إذا نقضه الطرف الآخر . وهذا مذكور في
قوله تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم )
الثالث : عهد الأمان
المذكور في قوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم
أبلغه مأمنه)
الرابع : العهد المطلق
وهو الذي لا يحدد بمدة ، وليس فيه جزية ولا خضوع لأحكام الإسلام.
وهذا كعهد النبي صلى
الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة، في ما عرف بوثيقة المدينة . وكعهد النبي صلى
الله عليه وسلم مع يهود خيبر (نقرهم فيها ما شئنا )
وهذا يجوز لنا نقضه إذا
كانت المصلحة في ذلك ، بعد إعلام الطرف الآخر ، أو الانسحاب من الاتفاقية باللغة
السياسية المعاصرة ، كما قال تعالى (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء
).
وهذا ينطبق على العهود
مع اليهود ، فيجوز لنا الانسحاب منها إذا كانت المصلحة في ذلك ، وكانت لنا قدرة
على قتال اليهود ومن وراءهم .
قد يقول قائل :
أليست إسرائيل قد نقضت
الاتفاقية فكيف نقول بأنها ما زالت باقية ؟
نقول :
نعم نقضتها جزئيا ،
وردت عليها مصر جزئيا ، فوضعت مصر قواتها في سيناء رغم مخالفة ذلك للمعاهدة ، ولما
طالبتها امريكا بسحب قواتها، جعلت ذلك بعد انسحاب اسرائيل من فيلادلفيا. فحصلت
خروقات جزئية متبادلة ، ولكن لا يلزم من ذلك نقضها بالكلية .
ولا يلزم من نقض اليهود
لبعض البنود أن نلغي الاتفاقية ، فقد تكون المصلحة في الاستمرار فيها، إذا لم نكن
قادرين على المواجهة مع اليهود والأمريكان .
ولما غدر المشركون ببعض
الصحابة بعد الحديبية وأسرهم الصحابة حتى جاء عامر بن الأكوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم بسبعين مشركا قد أسرهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (دعوهم يكن
لهم بدء الفجور وثناه)
فلم ينقض النبي صلى
الله عليه وسلم الاتفاق رغم وجود النقض وتكرره ، لأن مصلحة المسلمين كانت في ذلك.
فالعبرة في كل ذلك
بالقدرة والعجز والمصلحة والمفسدة، فليست الاتفاقية هي التي تمنع من قتال اليهود ،
وإنما العجز في الحقيقة عن الدخول في مثل هذه المواجهة المفتوحة مع اسرائيل
وامريكا التي تدعمها دعما مطلقا .
قد يقول قائل :
ألا تعد المجازر
والإبادة لأهل غزة نقضا للاتفاق ؟
والجواب :
أن نقول : إذا كنا
قادرين على تحمل تبعات المواجهة ، فالواجب هو نقض الاتفاق ومساندة إخواننا في غزة
، لإيقاف هذه الإبادة .
ولكن إذا كنا عاجزين عن
هذه المواجهة ، فليس من الشرع ولا العقل أن أقذف بأهل مصر للمحرقة بحجة عجزنا عن
إيقاف المحرقة في غزة !
وللأسف هذا هو المنطق
السائد اليوم !
ولذلك تصور البعض بأن
القضية هي قضية معاهدة وفقط، ليس صحيحا ، بل العبرة بموازنات القوى والقدرة على
تحمل تبعات إلغاء المعاهدة.
البعض يقول : وهل هذا
يعني أن أهل غزة لا يجوز لهم حرب اليهود التزاما بهذه الاتفاقية ؟
والجواب :
هذا غير صحيح ، لأنهم
غير داخلين فيها ، وهي لا تلزم إلا من دخلها .
ولكن الواجب عليهم
مراعاة المصلحة والمفسدة في حربهم وقرارهم ، ومراعاة مصلحة مليونين من الناس تحت
أيديهم ، فعليهم أن ينظروا جيدا في مصلحتهم بواقعية.
وعلى كل حال فدرجات
المقاومة وحساب ردات الفعل أمر مهم ، وطالما كانت المقاومة تتحسب له ، وفرق كبير
بين عمل مقاوم محسوب ، والدخول في حرب مفتوحة صفرية. وكل عاقل يدرك الفرق بين
موازين القوى ، وأن واقع المقاومة في الأرض الضيقة لا يسمح بالحرب الصفرية
والمواجهة الشاملة .
البعض يقول :
هل معنى هذا عدم نصرة
أهل غزة ؟
والجواب :
هذا باطل ، ومن قال ذلك
أصلا ؟
بل الواجب على الجميع
والحكومات خصوصا بذل ما في وسعهم لإيقاف الحرب ، ونجدة وإغاثة إخوانهم ، كل على
حسب الطاقة .
وهناك جهود دبلوماسية
وسياسية واقتصادية وإغاثية وغيرها كثير مما يدركه الساسة هي من نصرة إخواننا في
غزة. وهذا يختلف باختلاف الأحوال والظروف .
وقد بذلت مصر جهدا
كبيرا منذ بداية الحرب لإيقاف الحرب وتثبيت الهدنة وإرسال القوافل الإغاثية
الكثيرة. ولكن البعض يصر على صورة الدخول في الحرب مع اليهود حتى وإن كان ذلك على
خلاف مصلحة مصر وأهلها.
البعض يقول :
أليس المسلمون أمة
واحدة ؟
نقول : بلى ، ويجب
عليهم نصرة إخوانهم بما يستطيعون.
ولكن لكل دولة حكمها
ونطاق سيادتها .
و قد كانت اتفاقية
الحديبية لازمة فقط لمن كان في المدينة تحت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم ، دون
من كان خارجها من المسلمين كأبي بصير وأبي جندل وعصابتهم التي كونوها على طريق
الساحل وكانت تشتبك مع المشركين وقريش عسكريا ، ولم يكن ذلك مخالفا للهدنة ، لأنهم
خارج الحدود السياسية لدولة المدينة .
ويدل على ذلك قوله
تعالى (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق )
فهذا معناه أنه يمكن أن
يكون للمسلمين في دولة المدينة ميثاق مع قوم من المشركين ، وهم في نفس الوقت -اي
المشركين- في حرب مع قوم آخرين من المسلمين ، ممن لم يدخلوا في المدينة، فهم كانوا
من الأمة ، ولم يكونوا من رعايا الدولة، وفرق بين الأمرين .
وقد يقول قائل : لكن
هذا مخصوص بمن ذكروا في الآية لكونهم لم يهاجروا وهذه معصية فنقصت ولايتهم ولم تجب
نصرتهم .
والجواب : هذا كلام
ضعيف من وجوه :
- الأول : أن الذين لم يهاجروا ليسوا كلهم آثمين ، فإن
منهم من كان يقيم في بلده ولا حق لهم في الغنيمة والفيء إلا إذا شاركوا في القتال
كعبد القيس وأهل جواثا ، ومنهم من كان يترك الهجرة عجزا ، ومنهم من كان يترك
الهجرة تفريطا مع عدم قدرته على إقامة الدين ،وهذا الصنف الأخير هو الذي ذمه
القرآن ويلحقه الإثم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر قادته أن يخير من
يقاتلهم بالهجرة أو البقاء ويجري عليهم حكم الأعراب .
وهؤلاء كلهم داخلون في
عموم الآية ، مع أنهم ليسوا آثمين بترك الهجرة إلا الصنف الأخير المشار إليهم.
- الثاني : أن المعصية لا تمنع النصرة باتفاق العلماء،
فلو فرضنا أنهم جميعا كانوا عصاة ، فليس هذا مانعا من نصرتهم، بل إن نص الآية على
ذلك ، وأمر الله تعالى بنصرتهم إلا عند وجود ميثاق يمنع من حرب المشركين الذين
يقاتلون هؤلاء القوم .
فعلم بذلك أن المانع من
نصرتهم هو الميثاق كما هو نص الآية .
ولذلك يستدل العلماء
بهذه الآية على كثير من صور المعاهدات ولا يقولون إنها منسوخة أو مخصوصة بهؤلاء
النفر .
قال ابن القيم رحمه
الله في الفوائد المستنبطة من صلح الحديبية ( ... وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك
المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد= جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن
يغزوهم، ويغنم أموالهم، إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخ الإسلام في
نصارى ملطية وسبيهم، مستدلًا بقصة أبي بصير مع المشركين)
[زاد المعاد 3/ 309].
- وقال ابن مفلح نقلا عن ابن تيمية : (ونصارى ملطية وأرض
المشرق ويهودهم لو كان لهم ذمة وعهد من ملك مسلم يجاهدهم حتى يسلموا أو يعطوا
الجزية كأهل المغرب واليمن، ثم لم يعاملوا أهل مصر والشام معاملة أهل العهد، جاز
لأهل مصر والشام غزوهم واستباحة دمهم ومالهم؛ لأن أبا جندل وأبا بصير حاربوا أهل
مكة مع أن بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهدا.
قال: وهذا باتفاق
الأئمة، لأن العهد والذمة إنما يكون من الجانبين) [الفروع (10/ 316 - 317)]
فإن قال قائل : نحن لا
نعتد بالمعاهدات التي يعقدها هؤلاء الحكام لأنهم مرتدون ولا يراعون مصالح الأمة ؟
والجواب :
نحن لا نكفر حكام
المسلمين ، إلا من ارتكب كفرا بواحا عندنا من الله فيه برهان وأقيمت عليه الحجة
واتفق العلماء على كفره .
وتكفير الحكام هكذا هو
مسلك الخوارج المعاصرين وجماعات الغلو . ونبرأ إلى الله من منهجهم وغلوهم .
ونحن لا نكفرهم ، ولا
نبطل سياساتهم التي تحقق المصلحة الشرعية المعتبرة في حدود الممكن المتاح، حتى وإن
لم يعجب ذلك العاطفيين وأصحاب الشعارات الجوفاء .
واتفاقية كامب ديفيد قد
أقرها جميع الاتجاهات الإسلامية والتزموا أحكامها لما كانوا في السلطة في مصر في
2012 ، وذلك لعلمهم أنها تحقق مصلحة مصر في ظل الخلل في موازين القوى . فلماذا
ينقلبون عليها الآن ويتهمون من يلتزم بها بموالاة اليهود ؟
والواقع يؤكد أن
تقديرات الدولة المصرية في ما يتعلق بالسياسة الخارجية كانت أقرب للصحة من تقديرات
أكثر التيارات الإسلامية التي تفتقد للعمق الشرعي والواقعي، وتردد شعارات جوفاء لا
رصيد لها من الواقع، وهو ما يظهر عند اقترابها من السلطة والمسئولية.
موقع أنا السلفي